المقامة الرمضانية…شفيق غربال

المقامة الرمضانية…شفيق غربال

12 افريل، 12:00

ابتدأ شهر الفضائل والصيامْ .. ونحن نجتهد في الصوم والدعاء والقيامْ ..وبينما كنت ذات ليلة بأحد بيوت اللهْ .. إذ وخزني في جنبي أخي عبد اللهْ .. فاستدرت مكرها أمام العيانْ ..فإذا هو صديق الطفولة إياس بن سعدانْ .. سلمت عليه بهدوء و اقتضابْ .. وأومأت إليه بأن نلتقي لدى الباب ْ .. تفرّست فيه فإذا بالشيب قد غزا مفرقهْ .. وإذا بالتجاعيد قد غيّرت سحنته ْ .. وإذا بقوس ظهره قد اشتد وترُهْ .. وغابت عيناه في محجريهما وخبا نظرهْ..وكدت رغم ذلك أنكرهْ ..لولا أن تذكّرت صوته المبحوحْ ..وسمات مما عُرِف به من خفّة الرُّوحْ ..واشتبكنا في عناق وسؤال عن الأحوال ..ودعوته إلى بيتي في الحالْ ..فأبي واعتذر فلم أُبق له المجالْ ..وألزمته بالاستئذان من أهله بالجوالْ ..وقلت له : ” أنّى لك الإفلات منّي، وقد أبعدك الزمان عنّي؟ لنُحيينّها ليلة تعيد ما فاتْ..ولنجتمعنّ لإحياء الذكرياتْ ..لقد بقي من العمر أدناهْ ..وبلي منه أقصاهْ..” ولم أكد أنهي كلامي حتى بكى الرجل وهو لا يصدق ما يرى.. وظن ّ أن عهد الصداقة ولّى وانقضى ..
اجتمعنا في غرفة خلت من الرقيب والدخيلْ..وأشعنا بيننا جوا ظله جميلْ ..وضربت فخذ أخينا وسألته: “أيّ ريح طيبة حملتك إلى بيت الله يا إياس؟ أهي حيلة أخرى تريدها أن تنطلي على الناسْ؟ ..فامتعض وعبس وقال : “بل اشتريت منك صكّا للغفران ْ ..قادني الى طريق الإيمان ..” أيقنّا أن ّ الرجل استقام واتقى ..ونهى النفس عن الهوى ..وأحببنا أن نعرف ما الذي حرّك وجدانهْ ..وأيقظ إيمانه ..فسألناه ، فقال : “إيه يا رفقة الصبا وميعة الشباب ْ ..تلك ليلة مشؤومة رأيت فيها الحق ومهانة النفس والعذاب ْ ..لقد دسّ لي رفيق سوء مخدرا ومدّ لي كأس الشرابْ ..فشربته بشراههْ ..وظهرت آثاره بعد ساعهْ ..عصفت بي دوخة غيبتني عن الوجودْ ..وهدّني ضعف ليس له حدودْ ..وارتعشت ارتعاشة المحمومْ..ودارت حول رأسي النجومْ ..وشدا في أذني نعيب البومْ ..ولم أدر حينذاك أفي ليل أنا أم في نهارْ..وهل أنا حصان أم حمارْ ..صهلت ونهقتْ.. ورقصت وصفقتْ ..وضحكت وبكيتْ ..وخيّل اليّ أنني جزارْ ..و أهويت على صاحب الدارْ ..فاستغاث و لاذ بالفرارْ ..ولم يكن بدّ من إيثاقي ونقلي إلى الدارْ ..وهنالك استقبلني أهلي بالخزي والعارْ ..ولبثت على هلوستي ست ساعات بين الجنون والخبلْ ..ولولا ألطاف الله لقُضي الأجلْ ..وما ان خرجت من محنتي ..وأخبروني بجريرتي..حتى سُقط في يدي ..ولعنت رفقتي ..وقررت أن أقلع عن الشراب والمدام ْ ..وأن أتوب لربّ الأنامْ ..واستعنت بالصبر والصلاهْ ..وتركت المعاصي والموبقات ْ..وهُديت صراطا مستقيما ..وظللت عليه مقيما .. ولم يكد ينهي صاحبنا حكايتهْ ..حتى مسح كل منا عبرتهْ ..ولمّا خشيت أن تنقلب بهجتنا باللقاء إلى بكاء ونواحْ ..رجوت سعداننا أن يتحفنا ببعض طرائفه الملاحْ ..لقد كان لنا دوما مورد بهجة وسرورْ ..لا نكاد نعرف معه الا السعادة والحبورْ ..قال وفي صوته أثر من بكاءْ ..إليكم الحكاية أيها الأعزّاءْ ..” حكاية الطبال (أبو طبيله) عم الطاهرْ ..الذي أوقعه في طريقي حظه العاثرْ ..حضر يوما قبيل رمضان لتسجيل الأسماءْ ..فانتبذت به مكانا قصيا بعيدا عن الرقباءْ ..وأمليت عليه قائمة طويلة من أموات العائلة وبعض الأحياءْ.. ولمّا أصبحنا في شهر الصيام ْ ..وانتهت إحدى السهرات ونام الأنامْ.. تناهى الى سمعنا صوت الطبال وتدانى ..حتى اقترب من دارنا ونادانا ..وسردعلينا قائمة طويلة من أسماء موتانا ..فاغتاظ جدي ونظر الى نظرة حرّى ..وأيقن أن في الأمر سرّا ..فخرج يستطلع الأمرا .. وتبعته وهو لا يراني ..وغافلته وأنا الجاني .. وسحبت من الطبال طبلته وأخفيتها ..ولمحني جدي فالتمعت عيناه كجمرتي نارْ.. والتقطني من رقبتي وطرحني في فناء الدارْ ..وأذاقني من حرّ يديه خمسا وعشرين ضربة حتى بلغ صياحي العنانْ..وخشي أن يفزع الجيرانْ ..فسد فمي بخرقة من الكتان ..وتوعدني بالمزيد ان لم أخرس في الآن ..وتركني مقعدا من أثر تلك الفلقهْ ..وأذن لأمي بحملي الى غرفتنا بكل رقهْ.. ونُقشت تلك الفلقة في ذاكرتي منذ تلك الساعه ْ ..ولم أتورعْ عن تكرارها في كل ساعهْ ..”
علّق أحدنا عليه : ” أيها الغائب العائدْ ..مصائب قوم عند قوم فوائدْ ..فتنحنح وترشف قهوة زادها اجتماعنا حلاوهْ..وأضفى على أحاديثنا طلاوهْ..واجتررنا من القديم ما أثار النفوس ..وبدد عنها العبوس ْ ..وانتشينا بخواطرعن الدنيا والدينْ ..واستمتعنا بسويعات ندفع من أجلها المال الثمينْ ..وانقضت وقد قضينا منها وطرا ..وضُمّخت نفوسنا عطرا ..وتواعدنا على اللقاء كل يوم عصرا ..لنغنم من العمر فضلة نقيم بها أودنا ..ونحفظ بها ودّنا .. وقبل أن ينفض المجلس ألقى علينا إياس شعرا هو ملحة الوداع ومسك الختامْ ..جعلناه حلقة في آذاننا على مدى الأيامْ :
غدا ينادي من القبور إلى * هول الحساب عليه يجتمع
غدا توفّى النفوس وما كسبت * ويحصد الزارعون ما زرعوا
تبارك الله كيف قد لعبت * بالناس هذي الأهواء والبدع
شتت حبّ الدُّنى جماعتهم * فيها ، فقد أصبحوا وهم شيع
سكت وبكينا ..ومن الدموع احتسينا ..فقلت له: ” ويحك يا سعدانْ ..أوجعتنا بعدما شنّفت الآذانْ ..ألم تجد غير زهديّات العتاهيّ ختاما للقاءْ ؟ ” فردّ في تأثر عميق : ” فديتكم بنفسي أيها الصّحاب الطيبونْ ..كل شيء في الله يهونْ ..من عاد مثلي إلى الحياة بعد المماتْ ..صغرت في عينيه الملذاتْ ..وشقّ عليه ما هو آتْ ..”

مواضيع ذات صلة