
حديث الجمعة: تفسير قوله تعالى: “ولولا تدافع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض…”.
ذيَّلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت لها الآيات التي تحدثت عن الصراع بين طالوت وجالوت، (ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية).
و لكن لماذا تفسد الأرض؟ تفسد الحياة بفساد أهلها، وفسادُهم بالظلم والعصيان ومخالفتهم أمر ربهم، ودفع الله الناس بعضهم ببعض يوحي بأن أناسا ألفوا الفساد وأُشرِبوه، وفي المقابل طائفة نجت بنفسها من الفساد، ولم يكتفوا بذلك بل قاوموه وحاربوه، وهؤلاء هم أهل الإصلاح وورثة الأنبياء.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40]. فهاتان الآيتان جاءتا في سياق الجهاد والدفع، ومن مقتضى العمل بهاتين الآيتين: أن إذا ظهر صاحب الباطل وأظهر باطله، فإن على أهل الحق أن يتصدوا لهذا المبطل ويدفعوه بالحق، وإلا فسدت الأرض.
وقد ربط الله صلاح الأرص بالتدافع، فلو توقف هذا التدافع لحظة لفسدت الأرض، فالصراع سُنة ماضية، ولو تغلَّب الحقُّ على الباطل على الدوام لم يكن لاختبار الناس معنى، ولا للدنيا مغزى؛ لأنها الناس كلهم كانوا سينحازون لمعسكر الحق، ولن يبقى مع الباطل أحد! وكذلك لو تغلب أهل الباطل في الأرض، فلم يبقَ للحق صوت ولا سلطان، لحلَّ سخط الله ومقته على أهل الأرض كما يحدث آخر الزمان، ففي الحديث أنه إذا لم يبقَ في الأرض إلا شرار الناس، يتهارجون فيها تهارج الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة. وختم الله الآية بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، ففضل الله على الناس يقتضي هذا التدافع، فلو استبد أهل الباطل ولم يجدوا من يقارعهم، أو تمكَّن أهل الحق على الدوام لحُرِم الناس فضلا عظيما، والدنيا دار اختبار لأهل الاختبار، وبحسب العمل فيها يتحدَّد الجزاء. ألم تسمع ما قرَّره نبيك: «وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون»؟! فلا بد أن يقف في وجه الحق أقوام، ويواجه الباطلَ أقوام، ولذا كان الصراع بين الحق والباطل قديم قِدَم الدنيا، وباقٍ إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.