حوار مع الكاتب الكبير عبد القادر بن الحاج نصر… الجزء الاول
* المرء لا يكتسب الشّخصيّة التي تميّزه عن الآخرين إلّا إذا آمن بالمثل العليا واتّبع المسار الذي يؤدّي إلى رحابها
* الأجيال الصّاعدة انغمست في ما لا يسمن ولا يغني مادّيّا وروحيّا وفكريّا ووطنيّا
كاتب مبدع، إنسان لطيف، صديق وفيّ، طيّب حسّاس، ويحترم الصداقة والعلاقات الإنسانية، محبّ لوطنه حتى النّخاع، متمسّك بمبادئه وبهُويّته، مواظب على الكتابة رغم لعنتها القاسية والمدمّرة… مقتنع أنّ الكتابة واجب مقدّس نحو القرّاء بعيدا عن الماديات والجوائز التي كثيرا ما ذهبت للمقرّبين والمتسلّقين والمتملّقين والفوضويين الذين ملؤوا الساحة الثقافية.. يشجّع زملاءه ويتواضع لهم في محبّة.. مسيرة ثقافية ثريّة فاقت نصف قرن من العطاء ومسيرة إنسانية مليئة بحسن الخلق.. ذلك هو الأديب عبد القادر بن الحاج نصر الذي أجاب بكل رحابة صدر عن أسئلتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتحدّث كما لم يتحدّث من قبل، فكان هذا الحوار الممتع الذي تناول جوانب عميقة أدبية وإنسانية في شخصية الكاتب من زوايا فريدة لم تُطرح في حوارات سابقة :
1- مرحبا بك أستاذ عبد القادر في موقع الصحفيين التونسيين بصفاقس.. أخبرتنا أنّ إصداركَ الحديث “حديقة لكسمبور” ليس سيرة ذاتية كما يعتقد القارئ للوهلة الأولى، كيف ذلك ؟
نعم هي ليست سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه.. إنّها قصّة عاشق للدراسة في جامعة باريس، وبالتحديد الفضاء الجامعي لدائرة السربون.. السربون التي ذاع صيتها في الشرق والغرب.. العاشق حين يدخل العاصمة باريس تتخطّفه الأنهج والساحات والمعالم الحضارية وأنوار المعرفة فيحيا ويتنقّل في متاهة من الأتعاب والخوف والإحباط لكنّ الشوق إلى الانتماء، رغم قسوة الظروف، إلى هذا الفضاء الجامعي، يؤجّح في العاشق روح التّحدّي والمواجهة والصّبر على الأذى.. هذا العاشق المغامر هو نموذج لشخصية روائية كأيّ شخصيّة من الشخصيات.
2- واضح أنّ تجربتكَ الإنسانية والأدبية ثريّة وفيها من المعاناة ما فيها (يُتم، مرض في الطّفولة، هجرة واغتراب، مؤامرات وإبعاد،…). كيف ساهمت قسوة الحياة في نحت شخصية قوية ومثابرة لعبد القادر بن الحاج نصر ؟ وما هي الدّروس التي تعلّمتَها ؟
لستُ أنا الذي أصف شخصيّتي الأدبية والمدرسية والاجتماعية.. إنّما أقول فقط.. إنّني جُبِلْتُ على المثابرة والسعي إلى الهدف الذي أحدّده دون تردّد، وقد أُجلد بالسّوط، وقد تقف في وجهي قوى مختلفة قاهرة محبطة هدّامة فلا أنحني ولا أستسلم.. قد لا أتردّد في القول إنّ الدّرس الذي تعلّمتُه أثناء مسيرتي وأرجو أن يكون ضوءا هاديا للآخرين هو أنّ المرء لا يكتسب الشّخصيّة التي تميّزه عن الآخرين إلّا إذا آمن بالمثل العليا واتّبع المسار الذي يؤدّي إلى رحابها.
3- هل تشعر بالحنين إلى الماضي وإلى الحياة التقليدية والعادات والقيم الأصيلة وأنتَ عاشق الفلّاحين والمدينة العتيقة وباريس زمن السّبعينيّات رغم المعاناة ؟
لا شكّ في ذلك.. الحنين إلى الماضي، أقصد هنا، الرّيف، والطّبيعة والمراعي وقطعان الأغنام، وحقول القمح والشّعير، وأشجار التّين والزّيتون واللّوز والتّين الشّوكي والأزهار والطّيور الصادحة وحتّى دوّرات الرّياح والمطر ومياه الأودية والجداول والغدران.. لذلك أنا أقضّي حاليا جلّ أيامي في مسقط الرّأس، حيث فضاء القرية وفضاءات البادية.
4- كتاباتكَ تركّز على حبّ الأرض والطّبيعة.. لماذا تراجع القطاع الفلاحي في تونس ؟ وكيف السّبيل لإعادة قيمة الأرض في نظر الدّولة والشّعب في هذه الحياة المادّيّة العصريّة ؟
يعود تراجع قطاع الفلاحة إلى عدّة أسباب أوّلها تغيّر المناخ، وشحّ الأمطار. وثانيها عدم اهتمام الدّولة إذ لا استراتيجية وطنية لتسيير القطاع، فوزارة الفلاحة واتحاد الفلّاحين لا وجود لهما يُذكر على الأرض وبجانب الفلّاحين.. الدّولة تتعامل مع هموم الفلّاحين وقضاياهم من داخل المكاتب، وضمن منظومة بيروقراطيّة.. الدّولة لم تحرّك ساكنا أمام التفويت في قطيع الأبقار إلى من يرغب فيه من خارج الحدود ولم تهتمّ بالأمر بالمحافظة على هذه الثّروة.. بل تركت أسعار الأعلاف ترتفع، مثلما ارتفعت أسعار الأسمدة والأدوية وقطع الغيار ولم تهتمّ بالإنتاج الفلاحي ولا بترويجه..
5- هل أفسدت الحياة المادّيّة العصريّة أذواقنا وأخلاقنا وأحاسيسنا ؟
نعم، أفسدت أخلاق الكثرة، وأثّرت في الأجيال الصّاعدة التي انغمست في ما لا يسمن ولا يغني مادّيّا وروحيّا وفكريّا ووطنيّا.
6- الأطفال والشّباب اليوم مختلفون عن الأمس فهم أقلّ عزما واجتهادا وأقلّ احتراما للقواعد السليمة، ولكن هل يمكن تبرير تصرّفاتهم بأنّ المحيط العامّ قد جنى عليهم ؟ كيف ترى هاتين الفئتين المهمّتين في بناء المجتمع وما هي رسالتكَ لهما ؟
لا رسالة لي في هذا الشّأن لعلمي أنّ الرّسالة لن تتعدّى حدود هذه الورقة ما دامت العائلة قد استقالت من واجباتها إزاء أبنائها، وما دامت إدارة المدارس والمعاهد والكلّيّات فقدت السّلطة على التّلاميذ والطّلبة.. لم تعد هناك حدود ولا خطوط حمر وبات الالتزام بالأخلاق العامّة واحترام المعلّم والأستاذ والمؤسّسة التعليمية من أساطير الماضي.. كان المعلّم معلّما والأستاذ أستاذا لكلّ منهما هيبتُه وللمؤسّسة حرمتُها.. ترى ماذا بقي من ذلك كلّه ؟…
7- اهتمّ عبد القادر بن الحاج نصر في كتاباته بالمرأة وانتصر لها في مواطن عديدة وأكيد أنّ بعض النّساء يعانين إلى الآن.. ولكن بصفة عامّة، هل تغيّرت المرأة اليوم وأضاعت بوصلتها بفعل القيم الحديثة ؟ وما هي رسالتكَ لها ؟
لا رسالة لي مرّة أخرى.. غير أنّني أقول لكَ حقيقة لا جدال فيها : لو أنّ المرأة تخلّت عن العمل في الفلاحة، الزراعة والجني والجمع وكل ما يتعلّق بالإنتاج الفلاحي لما رأيتَ خضرا وغلالا في الأسواق.. ألم تَرَ تخلّي الشباب عن العمل في الفلاحة ليلجؤوا إلى تمضية الوقت في المقاهي، وأنّ تكاليف ما يستهلكون في المقاهي من سجائر وشاي وقهوة إن لم نقل شيئا آخر يسرقونها من جيوب أمّهاتهم العاملات في الضّيعات الفلاحية صيفا وشتاءً. الرّسالة يجب أن نتلقّاها من الأمّهات والأخوات والبنات.. أولاد البنات اللاتي ينقطعن عن التعليم بسبب الخصاصة والفقر. أمّا أنا فليس لديّ ما أنصح به.. إنّني أنظر إلى الواقع الذي تعيشه أغلب النّساء في الفلاحة والمصانع والمعامل والمتاجر وأصمت.
حاوره : سامي النيفر