عندما يسقط القناع… ويظلّ حضن العائلة وحده الحقيقة…اشرف المذيوب

عندما يسقط القناع… ويظلّ حضن العائلة وحده الحقيقة…اشرف المذيوب

14 نوفمبر، 20:45

هناك لحظات في حياة الإنسان تُشبه المرآة، لحظات قادرة على أن تكشف ما عجزت عنه سنوات من الركض خلف العمل والواجبات والزملاء. لحظات تأتي فجأة، أحيانًا على هيئة أزمة، مرض، إيقاف عن العمل، أو حتى ابتعاد بسيط عن الضجيج اليومي. لكنها تكون كافية ليكتشف الإنسان الحقيقة التي كان يهرب منها دون أن يشعر: لا شيء في هذه الحياة يضاهي العائلة… ولا شيء يستحق أن يأخذ مكانها.
طوال سنوات نظنّ أن العمل هو مركز الكون، وأن الاجتهاد، والبذل، و”إرضاء الزملاء” هي مفاتيح النجاح والاستقرار. نعتقد أن العلاقة مع الإدارة والزملاء مبنية على الإنسانية، وأن التعب الذي نقدّمه سيُقابل يومًا ما بتقدير. لكن حين نبتعد، ولو قليلًا، يسقط القناع… وتظهر الحقيقة عارية، بسيطة، وقاسية.
فجأة تكتشف أنك كنت تركض خلف وهم.
وهمُ أنّ العمل “عائلة ثانية”، وأن الزملاء سند لا يهتزّ، وأن الإدارة ستقف معك حين تسقط. لكن الحقيقة أن أغلب الإدارات لا ترى في الإنسان إلا رقماً، وفي جهده إلا ملفًا، وفي غيابه إلا خانة تُسجّل. أما الزملاء، فبينهم الطيّبون نعم، لكنهم قِلّة… قِلّة فقط من يرفع الهاتف ويسأل: “كيف حالك؟”
وهنا يتجلى الفارق العميق بين العلاقات التي تُبنى من المصلحة… والعلاقات التي تُخلق من القلب.
فالعائلة لا تنتظر ملفًا لتتذكرك، ولا تحتاج مرجعًا كي تهاتفك، ولا تقطع علاقتها بك حين تغيب. العائلة هي الحضن الذي يعود إليه الإنسان مهما طال البعد، وهي الحقيقة الوحيدة التي لا تتغيّر، مهما تغيرت المناصب والوظائف والوجوه.
عندما يبتعد الإنسان عن عمله لأول مرة بعد سنوات من العطاء، يشعر وكأنه يتحرر من ضغطٍ لم يكن يدرك ثقله. فجأة يصبح قادرًا على رؤية ما كان معطلاً بداخله:
يرى كم كان مرهقًا من محاولة إرضاء الجميع.
يرى كم كان دائمًا قريبًا من الانهيار دون أن ينتبه.
يرى أن “تحسين العمل” الذي كان يستهلك روحه، لا يعني للإدارة شيئًا حين يغيب هو نفسه.
ولعلّ أجمل ما يخرج به الإنسان من هذه التجربة هو إعادة ترتيب للأولويات.
يفهم أن العمل واجب… أما العائلة فهي حياة.
يفهم أن الوظيفة قد تغيب، لكن الأم التي تنتظر سماع صوت ابنها لا تغيب.
يفهم أن الإدارة يمكن أن تستبدل أي شخص… لكن الأسرة لا تعوّض غياب فرد واحد منها.
يفهم أن بعض الزملاء مجرد عابري طريق… بينما أفراد العائلة هم الجسر الذي يعبر عليه كلما وقع.
هذه التجربة ليست خسارة.
إنها درس، وعي، يقظة.
إنها لحظة يكتشف فيها الإنسان أنه كان يعطي روحه لأماكن لا تعرف قيمة الأرواح.
وأنه كان يبحث عن التقدير في بيئة لا تُقدّر إلا الأوراق.
وأنه كان يظنّ نفسه جزءًا من “منظومة”… فإذا به يكتشف أنه مجرد رقم لا يرنّ هاتف أحد حين يغيب.
لكن… وسط هذا كله، هناك نور.
نور في قلب الأم، وابتسامة الزوجة، وقلق الابن، واهتمام الأخ.
نور يقول لك: هنا مكانك… هنا قيمتك… هنا حقيقتك.
فلتكن هذه الفترة بداية جديدة، لا للقطيعة، بل للفهم.
للفهم أن العائلة هي الأصل… وأن العمل وسيلة، لا غاية.
للفهم أن قلبك الذي كان يحمل الجميع، عليه أن يحمل نفسه أولًا.
للفهم أن الإنسان لا يُقاس بكم قدّم في عمله… بل بكم وجد من حبٍّ حين احتاج.
وفي النهاية… حين تشتدّ العاصفة، تختفي كل الأكتاف… ولا يبقى سوى حضن العائلة.
وذلك وحده… أجمل حقيقة عرفها الإنسان.

مواضيع ذات صلة