فسقية التوتة ….. بقلم أشرف المذيوب

فسقية التوتة ….. بقلم أشرف المذيوب

20 ديسمبر، 21:15

من “محمية تماسيح” في خيال الطفولة… إلى معلم تاريخي منسي
كثيرون من أبناء صفاقس يتقاسمون ذكرى غريبة ومشتركة:
حين كنّا صغارًا، كنّا نعتقد أن فسقية التوتة محمية للتماسيح.
مياه راكدة، عمق غامض، أسوار صامتة، ومكان يلفّه الخوف أكثر مما يلفّه الفهم.
لم يكن ذلك لأننا كنّا أطفالًا مفرطي الخيال، بل لأن أحدًا لم يخبرنا بالحقيقة.
لم يقل لنا أحد إن ما أمامنا ليس خطرًا، بل تاريخ.
ليس وحوشًا في الماء، بل ذاكرة مدينة.
فسقية التوتة ليست حوضًا مهملًا، بل معلمًا مائيًا يعود إلى القرن الثامن عشر، شُيّد في العهد الحسيني، في زمن كان فيه الماء ثروة تُدار بعقلٍ هندسيّ دقيق.
أُقيمت خارج أسوار المدينة، وسط غابة التوتة، ضمن منظومة متكاملة لتجميع المياه وتخزينها، في فترة سبقت الشبكات الحديثة، وكان فيها التخطيط البيئي ضرورة لا ترفًا.
كانت الفسقية خزانًا استراتيجيًا:
تزود المزارع، تخدم العابرين، وتؤمّن موردًا حيويًا لسكان الجهة.
وبجدرانها السميكة وقدرتها على العزل والصمود، مثّلت نموذجًا متقدمًا للهندسة المائية التونسية، وأحد الشواهد القليلة المتبقية على عبقرية التعامل مع الموارد الطبيعية.
لكن… ماذا حدث؟
كبرنا، وبقي الجهل كما هو.
اليوم، يقف المعلم في حالة يُرثى لها:
مياه راكدة، تشققات، محيط مهمل، ولا لوحة واحدة تخبر الزائر ما هذا المكان، متى بُني، ولماذا كان مهمًا.
وهكذا تتحول الذاكرة من معرفة إلى خرافة،
ومن تاريخ إلى خوف،
ومن معلم إلى فضاء منسي.
أن نعتقد في طفولتنا أن الفسقية “محمية تماسيح” ليس خطأنا.
الخطأ الحقيقي أن نكبر، وتبقى الفسقية بلا هوية، بلا شرح، بلا حماية.
الأخطر من تدهور الحجر، هو تدهور العلاقة بين المدينة وتاريخها.
حين لا نعلّم أبناءنا قيمة المكان، سيصنعون له قصة بديلة.
وحين لا نحكي تاريخنا، يملأ الفراغُ بالوهم.
إعادة الاعتبار لفسقية التوتة لا تكون بالحنين فقط، بل بالفعل:
تصنيفها كمعلم تاريخي
ترميمها وفق مقاييس علمية
تثمينها بلوحات تفسيرية ومسار تربوي
إدماجها في الذاكرة الجماعية، لا في الهامش
لأن المدينة التي تترك أبناءها يكبرون وهم يجهلون تاريخها،
مدينة تُفرّط في مستقبلها.
فسقية التوتة ليست محمية تماسيح…
إنها محمية ذاكرة.
لكن الذاكرة، إن لم تُصَن، تنقرض.

مواضيع ذات صلة