قراءات في رواية “زمن الهذيان” للجامعيّة رفيقة البحوري…بقلم مصدّق الشريف

قراءات في رواية “زمن الهذيان” للجامعيّة رفيقة البحوري…بقلم مصدّق الشريف

8 ماي، 16:32

“زمن الهذيان” هو الإصدار الأخير للجامعيّة رفيقة البحوري. والمؤلَّف رواية من الحجم المتوسّط جاءت في 232 صفحة ونشرتها دار محمد علي للنشر وتندرج في سلسلة فتون.درّست رفيقة البحوري صاحبة رواية “زمن الهذيان” الأدب الحديث في الجامعات التونسية.

وهي ناقدة وشاعرة وكاتبة للأطفال، ناشطة في المجال الحقوقيّ وفي السّاحة الثقافية. صدر لها عدة عناوين في مجال كتاب الطفل والدراسات النقدية والإبداعات. وقد شدّت رواية “زمن الهذيان” العديد من النقاد في مجال الأدب، وتعددت القراءات في شكلها ومضمونها.

وقد وردت قراءة الأستاذين أحمد السماوي ومحمّد بن محمّد الخبو في ظهر غلاف الرّواية. يقول الأستاذ أحمد السمّاوي أستاذ التعليم العالي في اختصاص السرديّات متحدّثا عن الرّواية: “راقت لي هذه الرواية كثيرا. فقد شدتني بما تميزت به من تشويق، لقد اتخذت أسلوب الرواية البوليسية ووقفت مع قضية المرأة دون إسفاف، تتحرك فيها الحكاية بين فضاء الصحراء والقرية مع حضور المدينة.”

ويعلّق الأستاذ محمّد بن محمّد الخبو الأستاذ المتميز في اختصاص السرديّات على الرّواية بالقول: “عندما تقرأ رواية “زمن الهذيان” لرفيقة البحوري، يهزك هروب هاجر، تاركة وليدها متجهة إلى الصحراء. أصيبت بفقدان الذاكرة. (…) تطهرت من أدران المدينة بما وجدته من حبّ وصفاء. كأنّ لوثة النسيان قد طالت الراوي، يسند الرواية لهاجر تارة وينسى تارة أخرى هذا السند، فيتولى هو رواية أفعالها. إنه لعب بالنسيان والذاكرة حكاية وسردا”. وشدّت الرّواية الأستاذ إبراهيم بن صالح المتفقد العام للتربية، فانبرى يحلّل هذا الأثر الأدبيّ قائلا:”تتأسس الرّواية على لحظتين متمايزتين تمايزا جوهريّا هما:1- لحظة رفض سلّم القيم القديم والهروب من الزّيف واختزال الحياة في بعدها المادّيّ والعيش من أجل الجسد دون سواه من قوى المعرفة والإدراك وقد عبّرت الكاتبة عن هذه اللحظة بتخلّي ” بطلتها ” (هاجر) عن مولودها في المستشفى والفرار من زوجها ” الأحمق ” والخروج من المدينة وكلّ متعلّقاتها2- لحظة التّماهي مع القيم الإنسانيّة العليا، لحظة الصّدق مع الذات ومع البراءة.

هي لحظة الاستجابة لنداء القلب والروح وعاطفة الأمومة الغريزية وقد تجسّدت في عودة (هاجر) إلى طفلها وإن بعد خمس سنوات من الفراق. وما كان لـ (هاجر) أن تنتقل من لحظة أولى مرفوضة إلى لحظة ثانية مطلوبة لولا خوضها تجربة “عبور الصحراء” حسّا ومعنى La traversée du désert، تجربة ” الهذيان” بما هي جسر إلى ولادة الإنسان من جديد، وهذا هو جوهر الرّواية. كيف يرتقي الإنسان من مرتبة الحيوانيّة إلى مرتبة الإنسانية؟ كيف ينزع عنه إهاب الجسد ليدرك كنه الإنسان وسنخه الأعلى؟ كيف يتأتّى للإنسان أن يتطهّر من أعراض الحياة ليرتقي إلى جوهرها؟ انطلاقا من تجربة “عبور الصحراء” صارت الأسئلة تتناسل حول عدّة قضايا نسوية وفكرية واجتماعية من قبيل ما نستخلصه من خطاب ” البطلة”:

• القضيّة الأولى:- من هي الأمّ الحقيقيّة لأيّ مولود جديد؟ هل هي المرأة التي حملت بالجنين وعانت آلام الولادة (هاجر)؟ أم أنّ الأمّ الحقيقية هي التي تولّت تربية الطفل ورعته الرعاية الاجتماعية المطلوبة إن قليلا أو كثيرا (لونا ، مريم ، رانية ) ؟ بعبارة أخرى، هل الأمومة شأن طبيعي وغريزيّ أم وظيفة اجتماعيّة؟ هل الأمومة من فعل البويضة أم من أثر الولادة (الأمّ الفاضلة مع الأنوار) أم من استتباعات الإرادة؟ – من هو الأب الحقيقيّ لأيّ مولود جديد؟ هل هو الرجل الذي كان سببا بيولوجيّا في ميلاده (وجيه) أم هو الرجل الذي رعى ذلك المولود وقام بما تقتضيه تربيته إن قليلا أو كثيرا (مراد)؟ • القضيّة الثانيةالقضيّة الكبرى الثانية التي أثارتها الكاتبة في هذه الرواية هي قضيّة المرأة في المجتمع من خلال الأسئلة المستخلصة التالية: – لماذا لا يكون الحديث في تاريخ المرأة إلا كتاريخ لاضطهادها؟ لماذا لا تستطيع المرأة أن تحبّ إلا في خضمّ الألم وفي عذابات الصراع مع الرجل أيّا كان هذا الرّجل؟ – لماذا تجبر المرأة الجميلة على الصمت (الجازية) في الرواية؟ لماذا تحرم المرأة من التعبير عن جمالها بحرية؟ لماذا تُمنع المرأة من الاحتفال بجسدها؟ – لماذا لا يتحدّث خطاب الحبّ إلا عن الخيانة أو المغالطة أو المنافسة؟ متى نستطيع أن نقول عن علاقة حبّ إنها علاقة ناجحة؟ ما هي العلاقة بين الحبّ كأنماط نفسية وبين إيقاعات المعيش اليومي؟ التقت تجربة (هاجر) بتجربة (رفيقة) بحثا عن الذات وعن الحكمة وعن القيمة الإنسانيّة التي لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها ولا شيء غيرها. ومثلما عاشت (هاجر) تجربة ” عبور الصحراء ” كاستعارة للقلب، عاشت البحوري تجربة الصحراء كاستعارة أدبيّة أبدعت في وصفها لغة وأسلوبا وصورا ومجازات، طابقت بها بين الشكل والمضمون فنأت الكاتبة بنفسها عن أقانيم المدارس الفنّية الكلاسيكية مثلما نأت (هاجر) عن إكراهات الواقع المادي المعيش. كان مطلب كلّ من (هاجر) ورفيقة البحوري هو الحرّية، الحرية مقترنة إلى شسوع الصحراء والتحرك فيها من دون قيد عشقا للعدم الصحراوي، والحرية مقترنة إلى فضاءات العبارة الخصبة والإنشاء الرفيع في سيولة أخّاذة وبعيدا عن كلّ ضروب التلعثم. هذا وليس للقارئ أن يبحث كثيرا عن مكوّنات السرد الكلاسيكي وعن مقتضيات الواقعية ومنطقها السببي لأنّ الكاتبة علّقت كلّ ذلك باشتراطات” تجربة الهذيان ” والتذكّر وتوارد الكوابيس ومجاهدة النفس وهو من الأمور المألوفة في الكتابة عن الصحراء كالذي نجده عند (أندريه شديد) و(جون لاكاريار ).

هكذا كتبت رفيقة البحوري للحرّية ولنفسها وللمرأة وللطفل خاصّة باعتباره أكبر ضحايا الصمت الاجتماعي فكانت روايتها قطعة فنّية ذات منزع إنسانويّ تطمح إلى استرجاع الكرامة الإنسانية باعتبارها قاعدة الحقوق الإنسانية جميعا” .ومن ناحيتنا نقول لئن كان الزّمان والمكان بين أقصوصة “مارتا البانّية” 1 للشاعر والأديب جبران خليل جبران ورواية “زمن الهذيان” للأستاذة رفيقة البحوري بعيدين كلّ البعد، فإننا وجدنا أنفسنا نعيش التآزر نفسه الذي عشناه مع مارتا وابنها “اللّقيط” المشرّد في مجتمع نهش لحمه ولحم أمه ونحن نقرأ حكاية “هاجر” وابنها. لقد تعاطف جبران خليل جبران مع ما تعانيه المرأة في المجتمعات العربية التي لا تتأخر لحظة عن قذفها وهتك عرضها والتشهير بها وإخراجها قسرا من الحياة الطّبيعيّة للمجموعة والاستمرار في إهانتها حتّى يوم توديعها هذا العالم. وبين أقصوصة “مارتا البانيّة” ورواية “زمن الهذيان”، بقيت المرأة ضحيّة أعمال بشرية هي أقرب لأعمال الوحوش الكواسر.1 كتاب “عرائس المروج” لجبران خليل جبران يحوي ثلاث أقاصيص هي “رماد الجيال والنار الخالدة ” تتحدث عن تقمص الأرواح وآلهة الحب، “مارتا البانيّة” تحكي عن فتاة يتيمة تقع ضحية فارس غني ثم ضحية مجتمع كامل، ليحكي كيف تموت وحيدة فقيرة ومنبوذة، لا يحضر دفنها إلا ابنها الوحيد وصديقه و “يوحنا المجنون” التي تتحدث عن تناقضات الدين المسيحي بين التعاليم والواقع، وعن نبذ كل ما هو غير مألوف حتى ولو كان يبدو صواباً.

مصدّق الشّريف

مواضيع ذات صلة