قراءة في مسرحية شوق لحاتم دربال بقلم الطالب حسن جبيو

قراءة في مسرحية شوق لحاتم دربال بقلم الطالب حسن جبيو

2 ماي، 11:32

قُدم العرض المسرحي “شوق”للمخرج “حاتم دربال”، حيث تمت صياغة النص بصفة جماعية .فتجمعت الآراء وتم الإدلاء بالاقوال، لتصبح نهرا ينحت القرابة بين الناطق والمنطوق. وقد تمت عملية الاقتباس من طرف “حمدي لحمايدي” عن نص للكاتب الامريكي “جون لوك لاغراس”، وقد أوكلت مهمة الدراماتورجيا لكل من مخرج العرض “حاتم دربال” رفقة “معز عاشوري، اما عن السينوغرافيا وتصميم الفيديو فكانت من نصيب “سيرجيو قازى”، وقد صمم هذا الاخير رفقة المخرج العرض الاضاءة، وقد احتفى هذا العرض بثلاثة ممثلات : ” مريم بن حسين، آمال الفرجي ونادرة التومي” اما عن العنصر الرجالي فيتمثل في : “عبد المنعم شويات وحمادي البجاوي” في 30 من شهر افريل سنة 2023 بقاعة “المنصف السويسي”، أمام جمهور متعطش للفعل الإبداعي المسرحي .

“شوق” اي احساس سيدي المتفرج يعتريك وقد تمخض هذا اللفظ في تفكيرك، هل “شوق” الى انبعاث فجرا جديد أو “شوق” التغيير والانتصار الى ما تتشوق إليه من أعراف يهواها فؤادك…من الوهلة الاولى اجتذب الركح الخاوي الناظر إليه وورطه في التفكير في ما يرصده أمامه من مستطيل غير متقايس الأضلاع وتدرجيا تظهر اربعة شخصيات خلف الشاشة (الأخ وزوجته، الأم وأبنتها) في بيت يتأرجح بين الواقعي والإفتراضي وقد كان الانتظار صاحب القرار في محطة القطار ، وسيلة النقل تلك التي تقل مفارقا لديار.هكذا تجسد “الشوق” من الوهلة الاولى لدى من يُنتظر والمغترب عن بلاد أسلافه بغية اكتساب ما إفتقده في بلاده، هذه الشخصية العائدة من سفرها قد عانت ويلات الرفض وعدم الاحتكام الى احترام قواعد الاخرين اوليس المجتمع مجحفا وقاسيا في حق من اراد ارتياد مسلك الاختلاف في تمفصلات حياته…هذا الهجران توج بعودة “يوسف” من فرنسا بحقيبة محملة بالهدايا فهل كان العود أحمد؟ ولكن ما الذي يحدثه الفراق الا يجعل المشاعر قاسية، باردة على من فارقنا فلا تشفى سنوات الهجر بالقبلات، ولا تتغذى بالهدايا مدامت المشاعر باردة فقلب “الام” يلوم ولا يلين، أحاسيس “الزوجة” جافية، اما عن “الاخ” فنظرته قاسية، وماذا عن “الاخت” إذ بها معاتبة.

كلا من زاويته يعاتب، يقرر، يفسر، ويُأَوّل ويحاسب على ما رصده من سنوات الهجر, من أم وأخت وأخ وزوجة، حتى انك سيدي المتفرج ربما تسمعه يردد ما صرح به الكاتب المصري “نجيب محفوظ” على لسان بطله رشدي في رواية “خان الخليلي” : ” مالِا ارى الابصار بي جافية، لم تلتقت مني الى ناحية، لا ينظروا الناس الى المبتلي، إنما الناس مع العافية”.ولو تحدثنا عن الفراق فهل نرسي ما أدل به “علي بن أبي طالب” عندما وصف هذه العبارة بقوله: “أهناك أشد من الموت؟قال : نعم فراق الاحبة اشد من الموت” .

هذا المصطلح الذي يتكون من ستة أحرف، لكن وقعه أشد على الانسان من ساحات الهيجاء، فما حال المفارق عن الديار والارض والوطن “يوسف”؟فإذ بالعبارات تتدافع لتشكل نهرا من الحسرة والندم، من اللوعة و الحرقة، من الابتسام والانفصام…بذلك نتبين جزئيا معنى هذا المصطلح “الفراق”.فقد جرد المفارق مما لا يبتغي من هجرانه، هذا السفر الذي امتطاه على غير قرار وانما كان مجبرا عليه فلربما كان برمثيوس الذي اضاع ناره فصار في طريق البحث والتنقيب لينحت ذاته ويشيد كيانه ويشد همته وهمتهم ويقنعهم بما رفضوه.ذاك هو الفنان الذي هو عبارة عن طائر الفينيق الذي يحترق ليضيء عتمة الاخرين ويرشدهم أي الطرق يسلكون، أوليس “الفنان” ذاك البشري بمنزلة الإنسان ينير عتمة الآخرين فعندما يعجزون عن عبور السواد، وحين تنسدل ستائر الحياة يبعث فيهم من بهجة الأفكار ما لم تعيه أفئدتهم بعد…

هو ذاك الرسول الأمين المرتدي جبة الإصلاح جاء ليبشرهم بدينا جديد دين القبول، وعقيدة التماسك و منهج الحرية، رسالة تحمل في جوفها قولا عظيم ألا إستمعوا يا من تنصتون أني قد أُصطفيت لأتمم لكم ما كنتم تصدون اني بعثت لأتمم مكارم الاجتماع والالتحام لا حرقة الابتعاد والنفور .ولكن ما كل ما يبتغيه المرء يناله كما صرح “المتنبي” فهاهي البنت تخاطب أخاها بلغة المعاتب، فقد إرتئت أن تسافر الى البلاد التى سافر إليها حتى تنعم بنقاوة الحرية، وتنحت كيانها وتحقق احلامها فلطالما كانت تنتظر رسائله المبشرة بإلتحاقها به، فتشاركه غربته ولكنه يبقى راضخا لسطوة الصمت فتآبى شفتيه أن تعلي قولها بالكلام…اما زوجته فقد اعترتها نفس الحالة، فهي تأبى ان تبوح بالاسرار التي حدثت مدة اثنا عشر عام و أما عن اخوه امين، فيجهز عليه بوابل من الكلام ويلومه عن غيابه طيلة السنوات التي مضت وماذا عن الام هي الاخرى يعاني جوفها تدافق سيلا من الكلام فالأبناء كبروا، مشاكلهم كثرة ولم تعد تسطيع مجابهتهم فكفاحها في حقهم قل بعد موت الوالد فعانت من شتى الالام. هذه العائلة المتبعثرة الأركان ها قد عاد إليها ركنًا قد غادرها، حتى أن الناظر إليه يختزل بواطن قوله في ما قاله ذاك “الشاعر الجاهلي” “طرفه بن العبد معبرا عن نبذ القبيلة (العائلة) له فقال :”إلى أن تحامتني العشيرة كلها***وأُفردتُ إفراد البعير المُعبدِ، وهذا إن دل عن شيء فهو يدل عن الشرخ العائلي الصارخ والاسرار المسكوت عنها، فهل الامر منوط بمثليته؟ او بطريقة عيشه؟ فمن خلال مشاهدتنا للعرض تبين ان يوسف كاتب مسرحي انهكه رفض المجتمع قبل الكلمات إذ به ينتظر الفناء، أوليس الموت عبائة يتزين بها صاحبها بغية التخلص من أعباء الحياة؟ في لحظة من اللحظات، بعدما لم يجد اذناً صاغية ولا عيناً دامعة ولا لساناً يروي له أو عنه. فأصبح كالبعير المعبد منهك القوى وقد تهاوت قواه النفسية، علاوة عن اننا لامسنا تشضي لما يبني العلاقات الانسانية من علاقة تواصلية أنهكها إنحباس تهاطل الكلمات، ففي قوله المبطون يعلي صوته ليقول لنتجاذب من خلال الكلمات ولتتعانق أصداح العبارات، وهذا ما يفسر عمق هذه الشخصية التي تخوض تجربة وجودية ترتأي منها نحت أثر أو تخليد بصمة على ظهر الوجود …

اما عن العنصر السينوغرافي فأننا رصدناه حاضرا بصفة قوية، فقد بان المدرج وهذا إن دل عن شي فهو يدل على حلقة العبور الى ماوراء الابصار فالرمزية واضحة في تأرجح الشخصيات بين الحياة والموت، بين القبول والرفض، بين الحلم والحقيقة، كذلك ظهر مربع ضوء في زوايا غير متقايسة للمستطيل، وهو ما يدل على إختلال هواجس الشخصية الرئيسية، إذ تقف فيه كل مرة شخصية ما .كما رصدنا الكراسي التي تقاربت الا انها سرعان ما تنافرت على أن يتم تحريكها على الركح وهو ما يثبت مسيرة الانسان المتجددة والمتغيرة.أما عن الإضاءة، فقد غلب عليها اللون الازرق هذا اللون الذي يحمل في جوفه معنى الامان اوليس المرء يكون في مأمن في حضرت أهله، او ربما يكون أمان يحمل في جوفه كثيرا من الاختلال يتمثل في الخوف. خوف من العودة والرحيل في نفس الآن، او الخوف من وابل من الاسئلة. إضافة لو دققنا في جوهر هذا اللون لرصدنا انه يرمز الى الإخلاص، فتلك السنوات، لم تنتزع من قلب صاحبها معنى الوفاء لوطنه وأهله.ولو دققنا اكثر في رمزية هذا اللون يتراءى لنا أنه لون يعبر عن الهدوء والسكينة من صخب الحياة، علاوة عن الديكور الذي تمثل في الباب المفتوح والشباك المرسوم على الستار ألا يرمزان الى الحرية حرية الفرد مع الجماعة الانسانية وحرية المواطن في وطنه وحرية ممارسة اهوائه وما يستميله قلبه وما تحتفي به ملكة التفكير (المصطلح ديكارتي يعني العقل).أن تشتم الحرية يعني انك انسان و أن تمارسها في أفعالك و أعمالك تثبت انك قادرا على الاختيار.

فهل أتسم البطل بحرية الإختيار ؟ أما عن الموسيقى، فقد أججت الإحساس وجعلت المتفرج يغوص في اعماق الشخصيات، فتبين له حجم الهواجس النفسية في هدؤها، ضراوة في إستفزازها لمشاهر المتفرج فتجعله يمطي عقله ليفكر ويتفكر في ما ينصت إليها وما يبصره.أما عن الشريط المصور، فقد بين تشظي يوسف وتبعثره اشلاءاً اشلاء عندما نرصد قرينه في الشريط إذ به متعباً ومنهكاً، يبحث عن قارب نجاة فلا يدرك مبتغاه، إذ به ضائعا هائما مرتبكا فعودته لم يجني منها سوى كمدا فوق كمده فالعود لم يكن أحمد وانما زاد من حرقته و استفحل علته فلا يمكن للمرء ان يشفى في نفس البيئة التي جعلته يعاني ويلات الانكسار، ووفق هذه العناصر انبنت السينوغرافيا.سيدي القارئ و أنت يا من تنصت لكلماتي ألا تريد أن تعي ما يفعله الأهل بأهلهم…إذ بعائلته تسوقه للمشفى حتى تبرأ همتها من علته وعلى فراش الموت يلقى الفناء متحسرا، وحيداً رغم ان عائلته بجانبه وهذا ان حالنا على شيء فهو يحلينا على المفكر في العالم كيف يموت الذي لا يعي من حوله قيمته، إلا بعدما تأفل شمسه. فعائلته لعبت دور الممرضين مرتدينا الأبيض ونعلم ما يرمز له هذا اللون من السلام، نقاوة و إطمئنان… ولكن ماذا لو دققنا النظر، لوجدناه إتسخ بالممارسات التي تمارس تحت جبة البياض من غزل إباحي يفي قاعات العمليات، من تحرش ومس من الذات الانسانية بممارسات لا أخلاقية… وماهي الا هنيهات، حتى يعدون لادوارهم الاساسية حتى تتشكل العائلة من جديد وقد اعترتهم الحسرة، أصابهم الآلم وكسرهم الوجع .

هكذا يموت قلبا وقالبا من اراد الاختلاف في نهاية المطاف تاركاً وراءه احلامه الكبيرة و أشواقه الكثيرة فوق ظهر الحياة.بذلك ختمت المسرحية بتراجيديا، يُقدم فيها البطل كقربان عن الاخرين.”شوق” هي كل مايشتاق اليه الانسان من محبة، ألفة ووفاق من صدام و إلتحام من وجود و إنعدام، كل هذا يرتسم من خلال الاختلاف والقبول. لمن فاتته أشواق الحياة. فليتوجه لشوقه المأمول ليرصده فوق ركحا محبوك .ركحاً يشهد لمخرج برؤية فكرية وجمالية شاملة، ممثلين بروح إحترافية عالية، تصور سينوغرافي مثير للتفكير والتفكر. ولكن لكل شيء إذا ما تم نقصان…ختاما، اقول لأصحاب القلوب الرفيعة، والمشاعر الجميلة أفيضوا مما أفاضوا الذي من قبلكم “فشوق” يناديكم لكي تشاهدهُ، فهو لحظة من الإنتشاء والنشوة الفنية، إن الجمال الذي فيك يتجدد فهلما له فعيشوا للجمال حتى تراهُ اعينكم مأتلقاً في اشواقكم التي تعبر عنكم.

مواضيع ذات صلة