قرصنة بلا خجل: الرأسمالية في طورها الإجرامي..محمد خلف الله.
لم يعد العالم بحاجة إلى كثير من الشرح لفهم طبيعته الراهنة. حين تستولي الولايات المتحدة الأمريكية على ناقلة نفط فنزويلية كانت متجهة إلى كوبا، بحمولة تقدَّر قيمتها بنحو ستين مليون دولار، فإننا أمام فعل قرصنة مكتمل الأركان، تمارسه قوة عظمى بثقة من يملك السلاح ويكتب القوانين على مقاسه.
هذه ليست حادثة معزولة، بل مشهد كاشف لحقيقة الرأسمالية في طور التوحّش.
الرأسماليةلم تكن يومًا نظامًا إنسانيًا، لكنها كانت في مراحل قادرة على إخفاء عنفها خلف خطاب التقدّم والنموّ والديمقراطية. أمّا اليوم، وقد استنفدت شروط توسّعها تعود إلى أصلها المبني على العنف، النهب، وفرض الإرادة بالقوة الصرفة.
لقد وصلت الرأسمالية إلى هذا المستوى من التوحّش لأن تناقضاتها البنيوية بلغت حدّ الاختناق. فائض إنتاج لا يجد من يشتريه، انخفاض متواصل في معدّل الربح، واحتكار للثروة يترك أغلبية البشر خارج معادلة الاستهلاك. حين يعجز النظام الرأسمالي عن حلّ أزماته داخليًا، فإنه يصدرها خارجيًا: حصار، عقوبات، حروب، وقرصنة علنية.
العقوبات الاقتصادية، التي تُقدَّم في الخطاب الغربي كـ“أداة ضغط سياسية”، ليست سوى حرب طبقية عابرة للحدود، تستهدف الشعوب لا الأنظمة. إنها سلاح تجويع جماعي، يدمّر العملة، يخنق الاقتصاد، ويحوّل الحياة اليومية إلى معركة بقاء. وفي هذا السياق، يصبح الاستيلاء على ناقلة نفط ليس استثناءً، بل حلقة منطقية في سلسلة طويلة من النهب المنظّم.
الأخطر من الفعل نفسه هو الغطاء الذي يرافقه. فالقانون الدولي، الذي يُفترض أن ينظّم العلاقات بين الدول، تحوّل إلى أداة انتقائية، يُفعَّل ضد الضعفاء ويُعلَّق حين يتعلق الأمر بالأقوياء. ما هو “غير شرعي” اليوم ليس الفعل، بل هوية من يقوم به. وهكذا، تتحوّل الدولة الإمبريالية إلى مافيا كبرى، تفرض الإتاوة باسم الشرعية.
نحن إذن أمام رأسمالية لم يعد لها ما تقدّمه سوى القمع. لم تعد قادرة على إنتاج الاستقرار أو الرفاه أو الأمل، فتلجأ إلى إدارة العالم بمنطق العصابة، من لا يخضع يُحاصر، ومن يقاوم يُعاقَب، ومن يحاول الإفلات يُنهَب علنًا.
هذا التوحّش، مهما بدا مطلقًا، ليس دليل قوة، بل علامة انحطاط تاريخي. فالأنظمة لا تتوحّش إلا حين تفقد قدرتها على الإقناع، ولا تلجأ إلى العنف الصريح إلا عندما تنفد أدوات الهيمنة الناعمة. إن الرأسمالية اليوم تعيش آخر أطوارها: طور البقاء بالقوة المجردة.
غير أن سقوطها ليس آليًا. قد يطول هذا المشهد سنوات أو عقودًا، ما لم يتحوّل الغضب الاجتماعي إلى وعي منظم، وما لم تتبلور بدائل سياسية واقتصادية حقيقية. فالأزمة تفتح الإمكان، لكنها لا تصنع التغيير وحدها.
إن قرصنة ناقلة نفط فنزويلية ليست مجرد اعتداء على دولة بعينها، بل اعتداء على فكرة السيادة نفسها، وعلى حق الشعوب في تقرير مصيرها الاقتصادي. وهي، في الوقت ذاته، تذكير صارخ بأن الخيار المطروح أمام البشرية لم يتغيّر:
إمّا نظام يُدار بمنطق النهب والتوحّش،
وإمّا عالم يُبنى على العدالة والتضامن.
وفي هذا المفترق، لا حياد ممكن.
محمد خلف الله






