كلمة المؤرخ عبد الحميد الفهري في أربعينية الشاعر عبد الجبار العش
الكلمة التي ألقيتها بمناسبة أربعينية عبد الجبار العِش. سأقرأ 350 كلمة بحساب الأيام التي قضاها جبّار في قرقنةكلمات أقولها باسم هذه الأيّام التي احتضنت جبّارا وكأنني أسمعها تناجيه:- جبّار لماذا اخترت أن تأتينا متعبا مرهقا يائسا حانقا ؟ويجيب حبّار: أتيتُ لأستعيد نفسي لنفسي وأكتب سيرتي في طورها الحاسم. جئت هذه الديار لتكون منفى اختياريا.وتجيبه الأيام: أصبتَ جبّار فقرقنة احتضنت العظماء الذين ليس من حق التاريخ نسيانهم. أليس المبدعون عظماء؟ ويعود جبّار لتدارك ويقول: لا لست منفيا فحسب بل أنا لاجئ أيضا.هنا تنهره الأيام بشدة: لا جبّار أنت اعتزلت بإرادتك فأنت معتزليٌ في الزمن الرديء، هربت من الزيف والحيف والنفاق إلى واحات ما زال روّادها يكرعون من رضاب النخيل حتى مطلع الفجر. هنا أسمع أركان حانة الجزيرة تسأل الأيام عن جبّار؟ عن قفته ؟ عن درّاجته وكنشه وقلمه ؟كانت الأيّام تسمع هاتفا يهتف قادما من ضيعة آل الحضري بغابة مليتة الصغيرة: لماذا تركتنا جبّار ومضت دون وداع، دون أن تتلوَ علينا قصيدته الأخيرة وتشهد الأيام أن الرفاق اختضنوا جبارا بلا شرط سوى أن يقبل بالمداواة والاقلاع عن قضاء النزع الأخير من الليل يتناول المشروبات الروحية إلى حدّ هتك جسده المنهك أصلا فصار لا يسأل عن قوت وكأنه لا يجوع. هنا دقّ ناقوس الخطر وقد بلغ جبّار من العجز حدا بالغا.تلى عليّ جبار ظهيرة ذات يوم في ركن من حانتنا بعض ما كتب فقلت: أنت تعيد محاكمة كلب لا غير. فأجاب بغضب شديد: لا ، في محاكمة كلب عريّت نفسي وجلّدتها، أمّا في هذه الرواية فأنا أعريهم “هم” أفضحهم أكشفهم “هم”. وتبقى “هم” مبنية للمجهول إلى أن ينشر رفاقه روايته إن أوصى بذلك…عندما انهار وصار رفاقه عاجزين على إقناعه بالمداواة مع رفضه التحول للمستشفى التجأ خليله فتحي لمراد وحبيب ليجبروه على التداوي وتحويله إلى صفاقس وتونس وسوسة لكن فات الوقت المناسب وقد نخر جسده النحيف المرض . ولعل ما أثلج صدورنا اختيار جبّار أن ينهي حياته، وروايته بفتح طريق لمصالحة مذهلة مع العائلة. نعم العِش يعود إلى العُش ليقضي أيّامه الأخيرة بين أوجاع العودة وأوجاع الفراق.جبّار لن تنساك قرقنة ولن ينسى رفاقك سهراتنا المجنونة وقد لونتها بجنوك.جبّار، لروحك ألف سلام.