للحقيقة والتاريخ بمناسبة إفتتاح “المتحف المصري الكبير” وحكاية مدينة الثقافة التونسية
كنت مع مطلع سنة 1992 ضمن وفد رسمي يقوده وزير الثقافة المنجي بوسنينة  في زيارة رسمية إلى مصر، وخلال المحادثات الثنائية بين الوفدين تطرق الحديث إلى واقع المنشآت الثقافية في البلدين، فقال وزير الثقافة المصري فاروق حسني ان حلما جميلا يراوده في حله وترحاله، في يقظته ومنامه، وهو إنشاء “متحف مصري كبير” يكون مخصصا للحضارة المصرية القديمة دون غيرها، ولكن الأمر يتطلب الكثير من المال والجهد والمثابرة والسنوات الطويلة، فأجابه المنجي بوسنينة بأنه يحمل نفس الحلم ولكن بشكل مختلف نسبيا، وهو إنشاء مدينة للثقافة، تكون منارة في العاصمة التونسية، كما الأوبرا في باريس. 
تذكرت هذه الوقائع بمناسبة تحول حلم فاروق حسني إلى واقع بٱفتتاح، أخيرا، “المتحف المصري الكبير”. هكذا تولد المشاريع الكبرى من رحم الأحلام المجنحة، وللحقيقة فإن فكرة بعث مدينة للثقافة ولدت في رأس المنجي بوسنينة منذ تسلمه حقيبة الثقافة في حكومة حامد القروي مع مطلع تسعينات القرن الماضي فباح بها لبعض مستشاريه المقربين، وأنا واحد منهم، ثم رفعها إلى الرئيس زين العابدين بن علي الذي سارع بعقد مجلس وزاري مضيق لمناقشتها في التاسع والعشرين من شهر جانفي 1992، وأثناء النقاش عرض المنجي بوسنينة تصوره للمشروع مطالبا بالخصوص بأن يتم تشييده في قلب العاصمة، كما هو معمول به في العديد من العواصم الكبيرة في العالم، ضاربا مثالا بقصر الأوبرا المقام في قلب باريس.
حاول بعض الوزراء والمستشارين الحاضرين طرح بدائل متعددة، منها المكان الواقع وراء مصحة التوفيق على هضبة البلفيدير، لكن المنجي بوسنينة رفض كل المقترحات مقنعا رئيس الدولة بأن قيمة المشروع تكمن في ٱنتصابه في قلب العاصمة، مشيرا إلى قصر المعارض كمكان مثالي، فتدخل شيخ مدينة تونس محمد علي بوليمان مذكرا بأن هذا المكان مخصص لممارسي الرياضة ولا يمكن حرمان مئات الشبان من ذلك، عندها أمر بن علي وزير الشباب والرياضة عبد الرحيم الزواري بإيجاد بديل لهؤلاء الشبان في مكان آخر يكون قريبا من حديقتي الرياضة (أ-ب) وحي الشباب، وهو ما وقع الإتفاق عليه نهائيا ليتم الإعلان رسميا عن المشروع الجديد.
إنهمك المنجي بوسنينة وإطارات وزارة الثقافة في الإعداد الأولي لهذا المشروع، الذي أصبح من الأولويات المطلقة، بالتعاون مع وزارة التجهيز التي يشرف عليها في تلك الفترة علي الشاوش، وكان من كبار المتحمسين للثقافة وأهلها، وقد أثمر هذا التعاون العملي الوثيق تسريعا وتفعيلا للإجراءات الأساسية، ولم يغادر المنجي بوسنينةوزارة الثقافة إلا وقد ترك ملفا مكتملا وجاهزا وتجسيما هندسيا للمشروع في مكتبه بالوزارة.
تواصل العمل بالجدية ذاتها وبمتابعة دقيقة من بن علي في عهد صالح البكاري وعبد الباقي الهرماسي وحدد تاريخ 2004 لتدشينه، لكن بعض العراقيل التي طرأت في الأثناء، وخاصة مع الشركة التشيكية التي تم التخلي عنها، أجل التدشين إلى سنة 2009 .
بذل محمد رؤوف الباسطي، عند تعيينه وزيرا للثقافة، مجهودات كبيرة لتسريع عملية الإستكمال النهائي للمشروع، لكن الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق وضع حدا للمضي قدما في هذا المجال، حتى خرج عزالدين باش شاوش، عند تعيينه وزيرا للثقافة ليصدح بقولته الصادمة : “شكل مدينة الثقافة يذكرني بمقر الغيستابو” الذي كان هتلر وزبانيته يعذبون فيه المعارضين للنازية، وٱعتبرته محكمة نورمبارغ من مؤسسات جرائم الحرب !
أعجبت هذه القولة محمد المنصف المرزوقي وتبناها عند ارتقائه وقتيا لسدة الرئاسة وذلك بإصراره على تشويه المشروع وتجميده.
كان مشروع ” مدينة الثقافة ” قبل تشويهه والقدح فيه والتشكيك في فائدته والتعتيم عليه قد وصل إلى العديد من عواصم العالم وسارعت بعض الحكومات بتقديم مشاريع مماثلة لإنجازها في بلدانها، حتى وصل الأمر إلى حد تقديم طالب لأطروحة دكتوراه حول هذا المشروع التونسي الرائد في المدرسة القومية للهندسة المعمارية بالعاصمة المغربية الرباط وذلك في شهر جوان من سنة 1995.
لم يتم الإفراج عن المشروع وٱتخاذ قرار بٱستكمال إنجازه إلا بعد عدة سنوات، إذ تحركت بعض مجموعات الضغط الثقافي وأرغمت حكومة الحبيب الصيد على الشروع في إعادة الإعتبار لمدينة الثقافة ووضع خطة عملية لإنقاذها، وهو ما تم تدريجيا حتى إكتملت وأصبحت على ما هي عليه الآن.
		


 
 
 
 
 


