
للحقيقة والتاريخ بن علي والغنوشي وإقالة الهادي البكوش من الوزارة الأولى…
في مساء، طويل وثقيل، يوم 26 سبتمبر سنة 1989، والبلاد تعيش على إيقاع حركية سياسية متنوعة المشارب، كنا ثلاثة في مقر وزارة الثقافة والإعلام بنهج الجزائر: الوزير المرحوم الحبيب بولعراس ومدير ديوانه الدكتور المنجي بوسنينة وأنا المستشار لدى الوزير، وفجأة دخل الحاجب ليعلمنا أن مراسل جريدة لوموند الفرنسية “ميشال دوريه” يريد مقابلة الوزير لأمر هام وعاجل. لم يكن سي الحبيب متحمسا لٱستقباله فطلب من السيد المنجي بوسنينة و مني أنا أن نتولى الأمر عوضا عنه.
إستقبلناه في مكتب مدير الديوان ليفيدنا بأنه إلتقى في بداية ذاك المساء الكاتب الصحفي عمر صحابو، مدير مجلة المغرب في تلك الفترة، وقد أعلمه هذا الأخير بأنه تحادث مع الوزير الأول المرحوم الهادي البكوش في شأن تمكين حركة النهضة المحظورة من ترخيص لممارسة نشاطها السياسي، فأكد له الوزير الأول أن الأمر قد تم حسمه نهائيا من قبل الرئيس، وستحصل الحركة على الترخيص في الأيام القليلة القادمة ! كان “ميشال دوريه” بحاجة إلى تأكيد رسمي من وزارة الثقافة والإعلام لنشر الخبر في جريدة “لوموند”، لكن السيد المنجي بوسنينة، وبتوصية من سي الحبيب، نفى أن تكون الوزارة على علم بذلك، ورفض تمكينه من التأكيد الرسمي الذي يريد الحصول عليه. كان اليسار التونسي، بتشكيلاته العرائضية المراهقة، مدعوما ببعض المنظمات الحقوقية، قد تجند، في تلك الفترة، للمطالبة بتمكين حركة النهضة من “حقها” في تكوين حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية، بٱستثناء بعض القادة التاريخيين لليسار التونسي الحقيقي، وبالخصوص المرحومين محمد الشرفي ونورالدين بن خذر، الذين عبرا علنا عن رفضهما لهذه المسعى رفضا قاطعا، بٱعتباره يتنافى ومقومات التعددية السياسية السليمة التي تقر بفصل السياسة عن الدين.
وصل الخبر وحيثياته في الإبان إلى الرئيس بن علي، فٱهتم كعادته بالأمر.
وفي حدود الثامنة ليلا غادرنا مقر الوزارة بٱتجاه ضاحية قرطاج للعشاء بأحد المطاعم بدعوة من سي الحبيب، كان المطعم على ملك المرحوم حسن بالأعور، الذي غير له بورقيبة لقبه ليصبح حسن الأنور، وهو أصيل مدينة الساحلين، ويعتبر أحد كبار المناضلين، ورفيق مقرب من الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كلفه بالإشراف على جهاز الإستخبارات للحزب الحر الدستوري الجديد زمن الكفاح وخلال سنوات الجمر.
ما أن جلسنا على طاولة العشاء لٱستعراض بعض الذكريات مع سي حسن حتى تقدم نادل المطعم وهمس في أذن سي المنجي بوسنينة مفيدا إياه بأن مستشارا لرئيس الجمهورية يريده على الهاتف.
بعد دقائق عاد المنجي بوسنينة لإعلامنا بأن المستشار أحاله على الرئيس الذي طلب منه رواية تفاصيل اللقاء مع “ميشال دوريه”، ففعل وأجاب عن عدة أسئلة طرحها عليه الرئيس و تتعلق بالموضوع ذاته.
قال لنا المنجي بوسنينة معلقا : ” كان الرئيس، وهو يستمع لتفاصيل الواقعة، في حالة غضب شديد”، فأجابه سي الحبيب بالقول :”لقد حسم الأمر” وأضاف “بعض اليساريين المراهقين يمثلون سندا حقيقيا للإسلاميين فلا تغتروا باوهام وجود عداوة بينهما “
لم يمر يوم واحد حتى تمت إقالة الهادي البكوش وتعويضه بحامد القروي في السابع والعشرين من شهر سبتمبر 1989.
مصطفى عطيّة