مجرد رأي : بين النقابي والسياسي، خيط رفيع (الجزء 19)… المنجي عطيّة الله

مجرد رأي : بين النقابي والسياسي، خيط رفيع (الجزء 19)… المنجي عطيّة الله

19 مارس، 12:33

من العمل النقابي إلى سدة السلطة. هذا هو العنوان الأفضل الذي نختم به سلسلة متابعاتنا لعلاقة الاتحاد العام التونسي للشغل بالسياسة في السر والعلن، حسب متابعتنا اللصيقة لمساره “النقابي” وما يمكن أن يخفيه من طموح أو أطماع للوصول إلى السلطة وهذا ما وقفنا عليه في أكثر من مناسبة في تصريحات و خطب قياداته بعد الثورة، من خلال إعلانهم أحيانا عن نية الاتحاد المشاركة في الانتخابات ثم يتراجعون، بعد مناقشة الموضوع داخل هياكله. طبعا التردد في المواقف، لا يمكن تفسيره إلا بالخوف من الفشل الذي إن حصل سيرمي بالمنظمة خارج السياق التاريخي الشعبي الذي تستمد منه ما تبقى من عنفوانها. فكما سبقت الإشارة إليه في الجزء الماضي، بدأت شعبية الاتحاد تتراجع بعد أن سئم قسم من الشارع التونسي بكل مكوناته، بمن فيهم شق من القواعد والمسؤولين من الصف الثاني، من إطنابه في إقرار وتنفيذ ٱلإضرابات التي ٱتصف جلها في السنوات الأخيرة بعشوائية تجاوزت المفهوم النقابي إلى الضغط السياسي، كما يرى بعض المحللين.
اتحاد الشغل يبحث من خلال تحركاته بمختلف أشكالها على المحافظة عل الحد الأدنى من الشعبية التي بدأت تهترئ، لضمان موقعه على رأس خارطة المنظمات المجتمعية المؤثرة في تونس في ٱنتظار ما ستجود به الأحداث المتواترة من نقاط لصالحه وربما العكس ستسحب منه نقاطا وهو سيناريو تبدو ملامحه في الأفق حسب تكهنات عدد من الملاحظين.
على كل، كما قدمنا لهذه القراءة، سنعرض عليكم مثالين في العالم أوصلهما العمل النقابي إلى سدة الحكم وهما “ليش فاليسا” في بولندا و”لولا داسيلفا” في البرازيل…
سنكتفي في هذا الجزء (19) بالحديث عن النقابي االبولندي “ليش فاليسا” المولود في ديسمبر 1943. كهربائي في حوض بناء السفن، نشط ضمن حركة تضامن غير المرخص لها، ثم ٱعتلى زعامتها وهي منظمة نقابية أصبح لها صيت في بولندا وإشعاع في أوروبا والعالم.
“ليش فاليسا” قاد تحركات منادية بالديمقراطية منذ سبعينيات القرن العشرين، أنهت الحكم الشيوعي في البلاد أيام التبعية للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي.
عام 1980 أدى ٱرتفاع الأسعار في المواد الغذائية إلى إضراب في كامل حوض لينين لصناعة السفن، وكان “ليش فاليسا” من أبرز المحرضين عليه وأحد قادته، ثم ٱنتشرت الإضرابات في أكثر من منشأة ٱضطرت الحكومة إلى التفاوض الذي أفرز إبرام ٱتفاقية “غدانسك” التي تنص على حق عمال الأحواض في الإضراب وسمحت بتأسيس نقابة عمالية مستقلة ومنذ ذلك الوقت بدأت شعبيته في تزايد مع تجاوز عدد المنخرطين في حركة التضامن النقابية العشرة ملايين منخرطا. “ليش فاليسا” زعيم نقابي من الرعيل الأول في العالم، نال عديد الجوائز والأوسمة من دول أوروبية وهيئات دولية أبرزها جائزة نوبل للسلام، كما اختير ضمن مئة شخصية في القرن العشرين. 10 مارس 1981، في جلسة جمعته برئيس الجمهورية الجنرال “فويتشخ ياروزلسكي” لمدة ثلاث ساعات، اتفق الطرفان على أن الثقة المتبادلة ضرورية لحل مشاكل بولونيا وترجى رئيس الدولة من فاليسا المساعدة على الحفاظ على النظام الاجتماعي واجتناب التصريحات المعادية للسوفيات بمناسبة ٱقتراب موعد المناورات الحربية القادمة لحلف “وارسو”. لكن بعد أشهر فقط في 13 ديسمبر 1981 أعلن الرئيس الجنرال الأحكام العرفية في بولندا تم بمقتضاها ٱعتقال “فاليسا” وعدد من قادة ونشطاء حركة “تضامن” ثم في 8 أكتوبر 1982 ٱتخذ قرار حظر النشاط على الحركة.
عام 1983 تحصل على جائزة نوبل ولم يتنقل إلى أوسلو عاصمة النورفيج لتسلم الجائزة خوفا من منعه من العودة إلى الوطن وتنقلت زوجته نيابة عنه. في نفس السنة طلب “ليش فاليسا” العودة إلى العمل في حوض بناء السفن ككهربائي.
“فاليسا” واصل بعد ذلك النضال السري ضمن حركة تضامن وعاود عام 1988 تحريض عمال الأحواض على الإضراب.
سنة 1990 تم تشكيل حكومة ٱئتلافية بمشاركة حركة تضامن وفي نفس السنة تقدم “ليش فاليسا” للانتخابات الرئاسية وفاز بالمنصب كأول رئيس للجمهورية البولندية ينتخب في ٱقتراع حر ونزيه ومباشر.
هكذا يعتبر “ليش فاليسا” كما كتبت عنه الصحافة العالمية آنذاك، أول من دق مسمارا في نعش أكبر ٱمبراطورية شيوعية في القرن العشرين.
“ليش فاليسا” أيام حكمه تواصلت الصعوبات ٱلاقتصادية ولم يوفق في تحقيق ٱنتظارات الشعب في جانبها الاجتماعي بالخصوص وهي الحقيقة ٱلأولى التي ساهمت في خسارته في انتخابات تجديد العهدة عام 1995 أمام “ألكسندر كواسنيفسكي” مرشح الحزب الاجتماعي الديمقراطي سليل المنظومة الشيوعية ٱلسابقة وكان وزيرا في حضيرتها.
الحقيقة الثانية وراء سقوط “ليش فاليسا” في 1995 والتي كانت مؤثرة في الأولى، هي ٱحتماؤه بالكنيسة التي فرضت عليه سياسات محافظة وهو ما جعل البولنديين يكتشفون أن الرجل لم تكن نضالاته النقابية المسيسة ضد النظام الشيوعي تهدف إلى نقل بولندا إلى مرحلة جديدة تواكب التطورات الحاصلة في العالم، وٱعتبروها خطوة إلى الوراء.
لم يقبل “فاليسا” الهزيمة ولم يستصغها خاصة بعد حرب الوثائق التي قادها ضد منافسه والتي زعم أنها تدينه بالخيانة العظمى. وبالتوازي أطلق خطبة نارية عرض فيها أمجاد حوض “غدانسك” ونضالاته ولعن فيها التاريخ الذي أتاح للشر أن ينتصر مرة أخرى، في إشارة إلى منافسه الرئيس الجديد “كواسنيفسكي”.
حرب الوثائق التي شنها “فاليسا” على خصمه ٱنقلبت عليه حين ظهرت مخطوطات تدينه بالعمالة المباشرة للاستخبارات البولندية أيام الحكم الشيوعي ورغم أن المحكمة برأته من هذه التهمة إلا أن معهد الذاكرة الوطنية أماط اللثام عن 279 وثيقة سرية جديدة تثبت عمالته وكان “ليش فاليسا” أنكر صحة الوثائق بينما رأى رئيس المعهد عكس ذلك. طبعا وثائق كهذه لو تأكدت صحتها من القضاء، لذهبت بكل نضالاته ورمزيته الاعتبارية ولكن ما دامت المحكمة برّأته يبقى “ليش فاليسا” بريئا إلى أن تثبت إدانته والتاريخ لا يرحم كما يقال وهو الكفيل بكشف المستور.

مواضيع ذات صلة