مخاض ولادة الدولة الاجتماعية في ضوء مقاربة الرئيس قيس سعيد … ياسين فرحاتي
عديدة هي الدراسات و البحوث و المقالات و المقاربات الفلسفية النظرية و التطبيقية التي كتبت عن مفهوم الدولة و الدولة الإجتماعية بالخصوص موضوع مقالنا لهذا الأسبوع حيث يحظى باهتمام في المجتمعات الغربية و العربية و دول العالم الثالث، في خضم العولمة و الحداثة و مابعدها و ظاهرة التغير المناخي و تنامي الفقر خصوصا ما شهدتها عديد الدول العربية و حتى الغربية من موجات اجتجاجية عارمة و واسعة النطاق أثناء و عقب ما عرف بثورات الربيع العربي في عام 2011.
و سأركز على تونس من خلال الطرح السياسي للرئيس قيس سعيد و استعراض أفكار اجتماعية و فلسفية مستوحاة من كتاب ” نظريات معاصرة في علم الإجتماع ” للأستاذ الدكتور معن خليل عمر من جامعة اليرموك بالأردن و الرؤية الفلسفية للكاتب الفلسطيني المعروف و المستشار السابق للرئيس ياسر عرفات منير شفيق من خلال كتابه ذي الحجم الصغير ” الإسلام و مواجهة الدولة الحديثة ” الصادر عن دار البراق بتونس في نوفمبر سنة 1988.
يولي الرئيس قيس سعيد أهمية لمشروع إصلاح الدولة من الأعماق و الجذور و يسعى إلى تكريس بعد خلدوني يراه هو يعتمد على العدل مثلما كان يذكرنا عند توليه السلطة بالخلفية عمر بن الخطاب رضي الله عنه. و لئن كان هذا المطلب ساميا و رفيعا و صعب المنال لكنه ليس مستحيلا على الأقل العدل بين الجهات و الأقاليم و هذا الدور يمكن أن يلعبه مجلس الأقاليم و الجهات و هو ينخرط و ينسجم مع فكرة و مشروع الدولة الاجتماعية و هو الشعار و الياافطة التي يرفعهما الأستاذ سعيد خلال عهدته الثانية. و هو قد أعلن منذ أشهر ماضية حربا بلا هوادة على الفساد و باروناته و لوبياته و أعطى صلاحيات واسعة للولاة للعمل على مستوى الجهات في تطبيق نواياه. و لئن كانت هذه المهمة ليست بالهيئة و لا بالسهلة و تتطلب وقتا و عملا جبارا و يعد المواطن شريكا فاعلا و أساسيا في تجسيد و تكريس هذا التوجه التكتيكي و الاستراتيجي حيث أن رجال الأعمال الفاسدين لا يزالون في مناعة و لم يتعرضوا للمحاسبة الحقيقية و الفعلية و لنتذكر ماقاله الرئيس ذات ليلة و هو يمسك بملف الأموال المنهوبة و التي تقدر بمئات المليارات و لم تسترجع بعد.
إن تعيين خبير له كفاءة و مهارة في الشؤون الاجتماعية في البداية كوزير للشؤون الاجتماعية ثم رئيسا للحكومة هو كمال الدوري له أكثر من مغزى و دلالة . و في كل لقاء به يؤكد الرئيس على الدور الاجتماعي للدولة و لعل لقاء يوم الخميس الماضي 21 نوفمبر 2024، خير دليل على أهمية هذا البعد الذي يدعو أساسا إلى تكريس و تجذير فلسفة الدولة الاجتماعية في عقول المسؤولين السامين في الدولة و أيضا لدى عموم المواطنين. و قد شدد رئيس الجمهورية على أنه لا مكان للمتقاعسين و الذين لا يقدمون خدمات لهم و على دور الإدارات الجهوية للشؤون الاجتماعية. و قد لمسنا في الآونة الأخيرة زيارةات فجئية للسادة الولاة لعدد من مؤسسات الدولة و إطلاع على أحوالها و فتح تحقيقات لتشخيص وضعياتها المالية لنذكر فقط على سبيل المثال زيارة والي القصرين إلى معمل الآجر و إلى شركة السكك الحديدية و ما عثر عليه من تجاوزات جسيمة و إهمال و إخلال بأداء الواجبات المهنية حيث وجد أن 19 موظفين بالشركة يتقاضون أجورا دون عمل.
إن النهوض بالدولة و رقيها يتم عن طريق تسريع إنجاز المشاريع الكبرى و المتوسطة و حتى الصغرى و عديد منها معطل و منذ سنوات بسبب الإجراءات البيروقراطية و الروتين الإداري و هذه المهمة تتكفل بها خصوصا مصالح العلاقة مع المواطن في مختلف الوزارات و الإدارات المركزية و الجهرية و المحلية و ضرورة أن تتم مقابلة المواطنين للولاة في سلاسة و بسرعة خصوصا إذا تعلق الأمر بتيسير الاستثمار و انتصاب الشباب و الخريجين للحساب الخاص.
إن الحوكمة و الرقمنة و سياسة اللامركزية كلها أمور تدخل في إطار تعصير الإدارة و جودة الخدمات المسداة للمواطن. فهي منظومة متكاملة و متماسكة و شاملة.
و على منظمات المجتمع المدني أن تعاضد مجهود الدولة من خلال الإعلام و الإصغاء و الدعم و المساندة في ما يتعلق بغلاء الأسعار و شح المواد الأساسية و الاحتكار.
و لمزيد فهم دور الدولة و دور الفرد بصفة عامة، لا بد أيضا من مقاربة نظرية لبعض الفلاسفة و علماء الاجتماع. الدولة هي مجموعة من المواطنين الذي يعيشون على رقعة جغرافية معينة و لهم حاكم يحكمهم و يخضعون لقوانين متعارف عليها فيما بينهم و لهم حقوق و واجبات. نجد الفيلسوف اليوناني، يضع بعض المبادئ و التعريفات التالية المتعلقة بالإنسان بما هو مواطن بشكل خاص :
1- الإنسان كائن عضوي
2- ميل أعضاء الإنسان للنمو.
3- عيش الإنسان ضمن جماعات اجتماعية
4- الإنسان ما هو سوى حيوان اجتماعي
5 – عيش الإنسان داخل مجتمع منتظم
6 – نظام المجتمع يكون معلوما و واضحا لدى الجميع.
يحاول الأستاذ الدكتور معن خليل عمر تفسير و شرح الاحتمالات، حيث يحلل الاحتمال الأول بالقول أن الإنسان إذا أراد أن يعيش داخل مجتمع عليه أن تقوم بإنجاز و تحقيق حاجاته الحياتية الأساسية مثل الطعام و الماء و الملبس و المسكن و هذا ما أكدت علية النظرية البنائية الوظيفية لكي تبرز التوازن و الانسجام الاجتماعي كحاجة اجتماعية جوهرية يبحث عنها كل من الإنسان و المجتمع على السواء. و في إطار السكن الاجتماعي وقع في تونس توزيع آلاف المساكن الاجتماعية في عدة من البلاد و ستواصل هذا المشروع خلال السنوات القادمة.
يفسر الكاتب الاحتمال الثاني على أساس أن الإنسان يكافح من أجل تحقيق وسائل عيشه داخل المجتمع و أن الحاجات الاجتماعية الجوهرية ما هي إلا سلوكيات و وظائف تخدم أعضاء الإنسان و هذا ما أكدت نظرية داروين الاجتماعية و نظريات الوظيفة ذات المدى البعيد و القريب و النظرية المادية الديالكتيكية.
يتعلق الاحتمال الثالث بتوضيح أن عيش الإنسان داخل جماعات اجتماعية مترابطة علائقيا مع أعضاء الجماعات من خلال نظام تقسيم عمل خاص بكل جماعة مبني على أساس مهارات و كفاءات الأعضاء داخل الجماعة و هذا ما أو ضحه كل من هنري سانت سيمون و أوغست كونت و إميل دور كهايم و كارل ماركس و لورين فون ستاين.
بالنسبة للاحتمال الرابع، يرى المؤلف أن طبيعة الإنسان الاجتماعية و علاقته بباقي الأفراد الذين يعيشون على شكل جماعات يتفاعل معهم بواسطة اللغة و رموز ثقافية مشتركة و هذا ما يسميه أفلاطون ب ( العقل الاجتماعي ) و ما يسميه اميل دوركهايم ب ( الشعور الجمعي ) و ما أسماه فرديناند توينس ب ( الرأي العام ) و ما أطلق عليه أصحاب النظريات الاجتماعية الطبقية ب ( الشعور الطبقي ).
يوجه الباحث في الاحتمال الخامس اهتمامه إلى النظام الاجتماعي المتضمن الحقائق الاجتماعية و الفعل الاجتماعي . و هذا الاحتمال تحدثت عنه معظم النظريات التي تهتم بدراسة تطور المجتمعات التي تحولت من مرحلة البساطة إلى المركبة و المركبة المركبة. أمثال هربرت سبنسر و إميل دوركهايم و أوغست كونت. فدور كهايم كشف عن تطور المجتمعات من المرحلة الميكانيكية إلى العضوية و أوضح سبنسر تطور المجتمعات من المرحلة العسكرية إلى الصناعية و بين تونس انتقال المجتمعات من المرحلة العامة إلى المحلية و طرح روبرت فيلد تحول المجتمعات من المرحلة التقليدية إلى الحضرية. أخيرا أوضح الاحتمال السادس القوانين الاجتماعية و معاييرها و قيمها و استخدامها بشكل علني و ليس السري او المكتوم.
كما من المهم أن نلفت الانتباه إلى أن الدولة التونسية ممثلة في وزارة الداخلية تشن حملة شعواء و حربا ضروسا و بلا هوادة و يجب أن تتواصل ضد المخدرات و مروجيها. و قد أسفرت من خلال عمليات متزامنة من القبض على المئات منهم.
اتحاد الشغل دافع و يتظاهر أيضا بالدفاع عن حقوق الشغالين و يتبنى مفهوم الدولة الاجتماعية و شخصيا يهمني موضوع الأساتذة و المعلمين النواب كفئة تبحث عن مكان متميز لها وهي التي تعاني منذ سنوات من الظلم و الحيف و التسريع بتنزيل الأوامر الترتيبية في الرائد الرسمي و الانتداب و لو حتى على دفعات هو مطلب يندرج في صلب و قلب مفهوم الدولة الاجتماعية و القطع مع التشغيل الهش و هو أمر يؤكد عليه الرئيس في كل مناسبة تتعلق بالحديث عن التربية و التعليم و كل ما يمت لهما بصلة.
الدولة الاجتماعية تحيلنا إلى النظام الاقتصادي و اليوم ثمة اهتمام و تأكيد على الاقتصاد التضامني الاجتماعي و على دور الشركات الأهلية و تيسير انتشارها و تعميمها و لا بد من بد تفسير و تبسيط دراسة جدواها الاقتصادية و أن يكون الشباب مقتنعا بها في كنف الشفافية و الديمقراطية و المصداقية و أنه لا بد من تكريس دولة المؤسسات و القانون و حرية التظاهر و التعبير حتى تنتعش و تزدهر الدولة الاجتماعية و تصبح واقعا معيشا و ليس مجرد نظريات نقرأها في الكتب.
بالنسبة للمفكر القومي العربي و الإسلامي منير شفيق فإنه يحذر من الرأسمالية و الاقطاعية و يوجه نقدا للدولة الاشتراكية من النمط الشيوعي و يرى فيها خطرا على الدولة القائمة على مبادئ الإسلام. كما يرى أن نزوع الدولة إلى الهيمنة و الطغيان و الإبتعاد عن الشرع و العلو فوق المجتمع، يجب أن يعامل كما تعامل الغريزة في الإنسان أو القانون الداخلي في المادة. و بهذا لا ينظر إليه كأنه خطأ فكري أو انحراف ناجم عن تصور ذهني.
و يعترف الدكتور شفيق أن أولى واجبات قيادة إسلامية تتولى سلطة الدولة تقضي بأن تضبط هذا القانون المتحكم بطبيعة الدولة كما تتحكم الغريزة في الإنسان. أي كما تقضي أولى واجبات المسلم تجاه نفسه بأن يضبطها بإخضاعها لميزان الإسلام، و تنظيمها وفق مقتضياته.
و بذلك أرى أن تحقيق مطلب الدولة الاجتماعية، دولة متضامنة و متعاطفة فيما بينها و متصالحه مع مواطنيها يتطلب قلوبا ملؤها الإيمان و الصدق و الحب و الأخوة.