من بقايا ذكريات رمضان صنع الحلويات المنزلية
مازال الحنين إلى أجواء رمضان في الطفولة يجرفني بقوة و ينعشني وإن شحت بعض التفاصيل وغابت . أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي هي الفترة التي بقيت راسخة في ذهني و لا تزال . كنا ككل العائلات ننخرط في موسم صنع الحلو ويتحول البيت إلى خلية نحل وكنا نحن الصغار نشهد هذا الموسم و نشارك فيه بشراء مستلزمات صنع الحلو التي نقدر على حملها ( خميرة القطو ، الفانيليا، الزيت المخلط، السكر ، بعض المنكهات مثل روح الورد و روح العطرشية و قراطيس الصبغة للتلوين …) كما لنا مهمة أخرى على الأقل تتمثل في تذوق خليط الحلو و إخراج الصواني إلى الكوشة و استلاف الصواني من بيوت الجيران الأقارب و غير الأقارب .لكل عائلة صانعة رئيسة للحلو على الأقل يمكن أن تكون الأم و أو الأخت الكبرى . وكانت أمي وأختي الكبرى رحمهما الله من هؤلاء الصانعات الماهرات . ولم تكن أي صانعة ماهرة ترفض تقديم خدماتها عند الطلب إن أمكنها ذلك صدقة على بدنها و رجاء لدعاء الخير .الحلو قسمان : حلو من اللوز ( الزلوز) وقسم من الدقيق ( الفارينة: القطو والمقروض الأبيض محشي أو غير محشي ، دقيق الحمص : الحمصية ، الدرع: الدرعية وخبز الدرع وغريبة الدرع ، السميد المرحي: المقروض الأبيض أو الكعك الأبيض محشي و غير محشي ) . أما حلو اللوز فمتنوع (البقلاوة العادية و البقلاوة العدلية : مربعة الشكل و من لونين أخضر وأحمر ، و كعك اللوز و القيزاطة و الملبس ) و تختلف قدرات العائلات على إعداد كمية حلو العيد و قدرتها على حلو اللوز . و تشترك أحيانا عائلتان في صينية بقلاوة لارتفاع تكلفتها المالية و مشقة صنعها و ندرة صانعاتها . أما الحلو الآخر الدياري فمقدور عليه ولكن الجودة والإتقان يختلفان من عائلة إلى أخرى . ماذا نفعل نحن الأطفال في سن ما قبل الصيام ؟ نتذوق الخليط كما أسلفت و نلبي نهمنا من القطع الصغيرة غير الجيدة ونشتهي على أمهاتنا أو أخواتنا أن نصنع غريبة أو قرن قطو أو كعكة نضعها بأنفسنا في أركان الصينية لنأكلها بعد إنضاجها في الكوشة . ولما بدأ عودنا يشتد تحملنا مسؤولية إخراج الصواني إلى الكوشة بالتدرج من الأخف إلى الأثقل .مهمة صعبة ولكنها كانت تدخل البهجة إلى قلوبنا وكنا نتنافس في ذلك نحن الأطفال إلا صينية البقلاوة التي تحتاج الى شاب قوي . كما كنا نتنافس في حمل صينية كبيرة وأخرى صغيرة معا ثم ولما كبرنا أصبحنا نتنافس في حمل صينيتين كبيرتين معا . المقروض الأسمر أو المقروض الأحمر كان يصنع في البيوت قبل معرفة صنعه بإنضاجه في الكوشة . كانت أمي رحمها الله تصنعه في البيت مع أخوتي ثم تقليه ثم ( تشحره ) في العسل ( سكر وماء و قارص ) حسب الحاجة في كل مرة حتى لا يفسد أو يلف في السكر المحور ( المرحي) إبان قليه .حلو العيد الصغير موسمي تفرح به كل العائلات صغارها وكبارها حسب قدراتها المالية .وكانت أوعية التخزين هي القزادر ( جمع قزدرية ) التي تخرج من الدهليز أو بيت المونة أو السدة وتعمر سنوات و لا تلقى إلا إذا أكلها الصدأ و ثقبت . قزدرية للقطو و قزدرية للدرع وقزدرية للأبيض وقزدرية للحمصية وقزدرية للمقوض الأسمر أو الأحمر . وكانت ميزانية حلو العيد الصغير تؤخذ من رأس عال فهي فرحة الصغار والكبار . كانوا يربوننا على ترشيد الاستهلاك وترك النهم . وكانت أمي رحمها الله تعد نصيب كل يوم بنفسها دون تقتير ولا تبذير فالنظام أساس الحياة . كنا نجد متعة في فطور الصباح : قهوة كحلة و ما شاء الله من أنواع الحلو . الله يرحم والدينا لم يبخلوا علينا بشيء و علمونا كيف نأكل ونتحكم في شهواتنا : لا تشطيط ولا شطط خير الأمور الوسط. والحمد لله لم نكن نشتري من حلو السوق وإن أشتهي تذوقه وعادة ما يشتريه القادمون من الريف في ذلك الزمن أما اليوم فقد تساوى أهل الريف وأهل المدينة في ذلك والله غالب على أمره !هل مازلنا نحافظ على هذه العادات بتلك الروح و الحماس ؟ أترك لكم الإجابةوللحديث بقية عن سهرية صنع البقلاوة .
بقلم : شفيق بن بشير غربال _ صفاقس