الدكتورعبد القادر بن الحاج نصرللموقع : فليحيا الوطن ويسقط المتآمرون -1-
الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر كاتب معاصر غني عن التعريف غزير الإنتاج رغم عراقيل النشر ورغم اللوبيات المسيطرة على الثقافة في تونس ذو خلق رفيع وتواضع جمّ.. تجربته في الكتابة فاقت نصف قرن.. حبا في الأدب والكتابة وانتصارا للعلم والثقافة نجري معه هذا الحوار الشائق الذي أخلص فيه أديبنا الإجابة عن كل الأسئلة دون قيد أو تحفّظ معطيا من ثمرة تجربته الفكرية والأدبية الكثير
1- مرحبا بك سي عبد القادر في موقع الصحفيين التونسيين بصفاقس ما يشد القارئ في كتاباتك دقة الوصف وسحر التّعبير حين تغوص في أعماق الأمكنة والشّخصيات.. ماهي أهميّة الوصف في كلّ عمل أدبيّ؟
– عندما يكون الوصف دقيقا للشّخصيات والأماكن والأحاسيس فإنّه يشحذ انتباه القارئ ويقوّي الرّغبة لديه في اقتحام عالم الرّواية أو القصّة.. هل يمكن الاكتفاء بإعطاء الشّخصيّة صفة شرّير في القصّة فالصّفة لابدّ أن تترجم في الملامح بدقّة وفي النّظرة وفي الحركة وفي السّكون وهل يمكن الاكتفاء بوصف امرأة بالجمال والسّحر والفتنة.. لن يكون لذلك معنى إلاّ إذا وصف المبدع بدقّة متناهية مناطق الجمال ومميّزات السّحر والفتنة.. كذلك الأمر بالنّسبة للأمكنة.. كيف يتعلّق المتقبّل بمكان لا ألوان فيه ولا أشكال ولا موجودات.. إذا لم يقم المبدع بذلك فإنّ المكان يصبح لا مكانا بل إنّه يذوب في الأمكنة والقارئ الفطن المثقّف الذي له حاسّة فنّيّة وأدبيّة لن يتقبّل الكتابة السّردية المتعمّقة في السّطحية والمحيط.
إنّ الوصف في النّهاية لن يحقّق الغاية إلاّ إذا برزت من خلاله الخطوط والأشكال والخصوصيّات التي لا يدركها القارئ.. إنّ هذا الأخير لا يحتاج إلى ظاهر الأشياء وإنّما إلى باطنها.
2- الكتابة موهبة أم تعلّم؟ وماهي مواصفات الكاتب النّاجح بصفة عامّة؟
الخاصيّتان معا.. لن يبدع غير الموهوب، ولن يبدع الموهوب إلاّ إذا أقبل على التّعلّم بشغف واجتهاد وصبر على الأذى والمشقّة.
أمّا الكاتب النّاجح فهو الذي يعتبر الكتابة واجبا مقدّسا إزاء نفسه ومحيطه ووطنه، وهو ذاك الذي يأخذ من تجارب الآخرين دون أن يحاكيهم أو يقلّدهم أي أنّه يتفاعل مع كتابات الآخرين وإبداعاتهم وتجاربهم لإثراء موهبته، وهو الذي يعتبر بقناعة تامّة أنّه مهما ألّف ونشر ومهما لاقى من استحسان من قبل الآخرين فإنّه في بداية الطّريق وليس في نهايتها، والكاتب إذا ما اعتقد يوما، أو في مرحلة من مراحل الإبداع أنّه قد أدرك القمّة وأنّه تجاوز غيره ولم يعد في حاجة إلى أحد فذلك يعني أنّه قد بدأ مرحلة السّقوط إلى الهاوية.. وليس أفظع من سقوط الكاتب أو الفنّان أو حتّى الحرفيّ بعد تألّق.
3- الكتابة شغل أم هواية؟ هل يمكن القول إنّها ليست مصدرا للرّزق مع عراقيل النّشر من جهة وعزوف النّاس عن القراءة من جهة أخرى؟
– الكتابة هواية وقد تتطوّر دون أن تنفصل عن الأصل، إذ الهواية هي البداية والنّهاية في الإبداعات الأدبيّة والفنّية والإنتاج الأدبيّ والفنّيّ والفكريّ المنطلق من هواية متأصّلة هو الذي يصل إلى القرّاء فيتقبّلونه بمحبّة، لأنّ لا هدف وراءه غير التّواصل مع الآخرين عبر همومهم ومعاناتهم وقضاياهم، قد تتطوّر الغاية من الكتابة فتصبح لدى البعض إلى حرفة من أجل الاسترزاق المادّيّ فكم رأينا من كتّاب – كتبة – يتجوّلون بمؤلّفاتهم بين دور الثّقافة ومختلف المؤسّسات يتسوّلون إعانة ماليّة.. وإنّ هذه العمليّة إهانة للقيم الأدبيّة والفكريّة والفنّيّة.
إنّ هذا لا يعني أنّ المبدع لا يحقّ له الانتفاع الماديّ من كتاباته.. إنّما يكون ذلك في حدود القيم الأخلاقية.. فللكاتب أنفة وعزّة لا يجب التّنازل عنهما حفظا لصورة الأدب ومكانته.
4- الكتابة ألم واعتصار ومخاض شاقّ لكنّها في نفس الوقت رغبة وضرورة وتنفيس للكرب.. أظنّك تشعر بلذّة بعد تعب وإنهاء العمل وكأنّك تخلّصت من حمل.
– كلّ الذي ذكرته صحيح وواقع.. الكتابة مشقّة متواصلة أثناء عمليّة الكتابة وبعدها، وهي مخاض عسير لا ينتهي في لحظة مثلما ينتهي مخاض المرأة الحامل التي تضع حملها، بل هو ألم، بل هو وجع قد يمتدّ على شهور طويلة عند كلّ عنوان جديد، أمّا اللّذة فهي ظرفيّة.. فبعد الانتهاء من الكتابة يواجه الكاتب، أهوال الطّباعة والنّشر، إنّها غابة لا حدّ لظلمتها في بلادنا.
5- هل تفكّر في الكتابة الورقيّة أو التّلفزيّة للأطفال خاصّة أنّهم لم يعودوا يطالعون فالقصّة المصوّرة تجذبهم أكثر، حتّى شوفلي حلّ محسوب على الصّغار والأعمال المسرحيّة للأطفال تشاهدها مختلف الفئات العمريّة عكس الأعمال الموّجهة للكبار ؟
– لا.. ليس لأنّي لا أريد ملامسة هذا القطاع بل لأنّي أعلم حدود إمكاناتي وموهبتي وتوجّهاتي فلو غامرت واجتهدت وكتبت فلن أسعد الصّغار بكتاباتي لأنّي لن أحقّق الإبداع علما بأنّ الكتابة للأطفال أصعب الفنون.. لقد عرض عليّ بإلحاح سابقا الكتابة لليافعين، ورفضت بشدّة.
6- أمّة اقرأ لا تقرأ.. الأمّيّة في تزايد خاصّة مع الأجيال الصّاعدة بالإضافة إلى الانقطاع المبكّر عن الدّراسة.. كيف يمكن إعادة ترغيب الشّعب بالقراءة؟
– القضية مرتبطة أساسا ببرامج الدّولة وقراراتها وسياساتها، والدّولة ! إنّا في زمن اللاّدولة والحكومات! ألسنا في زمن اللاّحكومات! إنّ النّظام خاصّة منذ الثّورة قد تخلّى عن قطاع الثّقافة جملة وتفصيلا.. أولم ير النّاس، العامّة والخاصّة، أنّ أحد الوزراء في زمننا الماضي القريب قد منح لنفسه ولأعوانه في العيد الوطنيّ للثّقافة أكبر الأوسمة الثّقافيّة وقلّدهم إيّاها رئيس الجمهوريّة.
7- سمعتك تقول أنّك تودّ لو كتبت بالفرنسيّة.. أما زال الدّكتور عبد القادر بن الحاج نصر يفكّر في الكتابة بالفرنسيّة التي درسها وخبرها وتعمّق فيها في جامعة السّربون أم أنّه سيبقى منتصرا للعربيّة التي هي أقرب للرّوح والوجدان وأوضح للقارئ؟
– إنّ الكتّاب، القصّاصين والرّوائيّين والمسرحيّين، الجزائريّين الذين كتبوا باللّغة الفرنسيّة لاقى معظمهم نجاحات منقطعة النّظير لا في فرنسا فقط بل في العالم.. ذلك لأنّ النّشر متوفّر بأريحيّة والإعلام وأدوات التّعريف جاهزة دائما لخدمة المنشورات الأدبيّة وإيصال أخبارها إلى القرّاء، كما أنّ مؤسّسات التّوزيع لا تتوقّف عن أداء دورها فهي توصل الكتاب إلى كلّ المكتبات في فرنسا ودول العالم بأسرها.. إنّ الدّولة والمؤسّسات في فرنسا مؤمنة بأنّ الأدب رافد كبير وهامّ في المسيرة الوطنيّة، فكرا وثقافة وسياسة وتعليما وتربية وتنمية اقتصادية واجتماعيّة، تلك أمّة آمنت بالعلم وبالقراءة.
إنّنا يا سيّدي في بلدنا الذي نحبّ ونقدّس نرى المسيرة الوطنيّة تتقدّم إلى الوراء وقد نزعت عنها هموم القراءة والتّعليم وتمسّكت بالمعارك السياسيّة للاستحواذ على النّفوذ من أجل نهب خيرات هذه البلاد.
انظر إلى دور الثّقافة وإلى المندوبيّات والنّوادي إنّها خالية والمسؤولون يتجوّلون في الأسواق.
كنت أودّ الكتابة باللّغة الفرنسيّة وتخلّيت عن رغبتي لقناعتي الفكريّة والوطنيّة وهي أنّ بلدي يحتاج إلى تنمية لغته وإلى أدبه وثقافته للتّعريف بصورته ومكتسباته وحاضره وماضيه.
لو قرّرت الآن أن أكتب باللّغة الفرنسيّة لعجزت تماما لأنّي أضعت الكثير من أدوات التّعبير والقدرة على التّحكّم في اللّغة.
8- قرأتُ مرّة أنّك تتحاشى كتابة السّيرة الذّاتيّة، هل غيّرت رأيك الآن بعد نشر “حديقة لكسمبورغ” التي تروي فيها معاناتك في باريس أيّام الجامعة؟
– لم أغيّر رأيي.. كنت مؤمنا ومازلت أنّ السّيرة الذاتيّة بالنّسبة إليّ هي التي ستأتي من تلقاء نفسها، تضغط عليّ وتسدّ أمامي مسارات الكتابات الأخرى.. أي أنّني لن أذهب إليها ولن أبحث عنها فهي آخر اهتماماتي الأدبيّة.. كنت دائما زاهدا فيها لأنّي لا أريد أن أتحدّث عن نفسي.. لست أنانيّا ولا أرى تجربتي تستحقّ، في هذا الظّرف بالذّات، أن تكون ضمن تأليف أو أكثر من تأليف.
ولأنّ قناعتي هكذا فقد جاءت دون استئذان فترة دراستي في باريس فوجدتني أكتبها متّخذا منهج الرّواية لا منهج السّيرة الذّاتية الجافّ.
لو قرّرت أن أكتب سيرتي الذّاتية لبدأتها من البدايات.
9- ماذا تعلّمت من باريس الحضارة والأناقة والثّقافة وبهجة الحياة وقسوتها في آن واحد؟ وكيف يحب الإنسان وطنه وينفتح على الأوطان الأخرى في نفس الوقت؟
– تعلّمت الكثير.. أوّلها محبّة بلدي والذّوبان في حبّه والتّضحية من أجله، وتحمّل المتاعب لأكون قدر الإمكان عنصرا فاعلا، ولن أكون كذلك إلاّ إذا آمنت بتاريخ بلادي، وقدّرت كلّ الذين أعطوها من نضالاتهم شيئا سياسيّا وثقافيّا واجتماعيّا، تعلّمت أنّ بلادي لا تتقدّم إلاّ إذا احترم فيها وضع الإنسان كإنسان، فلا تفتكّ منه حرّيته، ولا تسلب منه كرامته ولا يسرق منه حقّه في الحياة.. وتعلّمت أنّ الثّقافة والفكر هما أساس العمران والتّقدّم وهما أساس حصانة الأوطان.
10- نجحت في كتابة عديد الأعمال الدّراميّة اللاّمعة كالحصاد والرّيحانة ودروب المواجهة وغيرها.. ماهو أقرب عمل إلى قلبك وهل هناك فرصة لرؤيتك في أعمال جديدة في التّلفزة؟
– هناك أعمال دراميّة كتبتها وأنتجت وبثّت ولم أجد نفسي فيها، بل كرهتها وأشحت بوجهي عنها، وهناك أعمال أحببتها، مثل “الحصاد” و”الرّيحانة” و”أيام مليحة”.
إن فرصة رؤيتي في عمل دراميّ جديد مرتبطة بظروف مختلفة لا أريد الخوض فيها وقد أسلت بشأنها من قبل حبرا كثيرا.
11- تركّز كثيرا على حبّ الأرض وعلى الحديث عن بئر الحفي في كتاباتك.. ما سرّ تعلّقك بالأرض وبقريتك؟
– عشقت الأرض منذ أن كنت صبيّا وهمت في الحقول والمزارع وتسلّقت الأشجار، وركضت وراء العصافير ومختلف الطّيور، ورعيت بأغنام الوالد وتنفّست معها الهواء، وشربت من السّاقية التي كانت تساق لتسقى منها، وقطفت ثمار كروم التّين والتّين الشّوكيّ والخوخ والبرقوق واللّوز وتأمّلت عراجين الزيتون في شجرته، أمّا القرية فهي المحيط الثّاني بعد البراري فقد تعلّقت بالمدرسة وبمحيطها وبالدّكاكين حيث بائع الفطائر واللّبلابي كما تعلّقت بسوقها الأسبوعيّ وما تعرض فيها من كتب صفراء تحتوي على القصص العجيبة.. والسّوق تعرض الحلوّيات وأنواع البخور التي طالما توقّفت متشمّما روائحها الزّكية.. وكم جلست تحت حائط روضة الشّهداء قريبا من الجامع.. ومن أهمّ ما عشقت في القرية، الحنفيّة العموميّة وصنابيرها الثّلاثة التي تضّخ الماء ليل نهار والسّاقية التي يجري فيها الماء رقراقا ليسقي بساتين القرية.
12- إعادات على طول العام.. نواد ثقافية شبه غائبة إلاّ من التّهريج والبهرج والمظاهر وإنتاجات هزيلة وسخيفة لا تحترم عقل المتقبّل.. كيف نصلح هذا الوضع المزري للثّقافة في تونس؟ هل هو تدمير ممنهج للذّات التّونسيّة التي اشتهرت بالعلم والثّقافة والذّكاء والخلق والإبداع على الأقلّ طيلة المائة سنة الماضية ؟
– قلت في إجابة سابقة إنّ هذا الوضع المتردّي ناجم عن تخلّي الحكومات المتعاقبة بعد الثّورة عن الثّقافة واعتبارها حملا ثقيلا لا فائدة من تحمّل أعبائه.
إنّ الثّقافة بدورها ونواديها ومسؤوليها في انحدار متواصل، بل هو انحدار ممنهج.
لن تكون هناك عملية إصلاح إلاّ إذا تمّ إيقاف النّزيف أوّلا للحفاظ على ما تبقّى من منجزات عهد الاستقلال.. والجهات التي ستوقف النّزيف هي التي ستتولّى إحياء الإيمان بدور الثّقافة وبما ستبدع من برامج حسب ما تسخّر لها من إمكانات.
ألا تعلم أنّ ميزانية الثّقافة قبل الثّورة كانت في حدود واحد ونصف من ميزانية الدّولة أمّا الآن فهي في حدود نصف الواحد والنّزيف مستمرّ.
13- اللّغة إحدى أهمّ ركائز هويّة الشّعب في خطر داهم هل توافقني الرّأي أنّ التّونسيّ ضاعت دارجته وعربيّته وفرنسيّته؟ أين الدّارجة اللّذيذة الأصيلة التي كنّا نستمع إليها في أعمال السّبعينيّات وأين العربيّة التي كثرت فيها الأخطاء البدائيّة الشّائعة والفرنسيّة التي يعتدى على قواعدها يوميّا، كلّ ذلك مقابل لغة هجينة وسوقيّة أحيانا. ما رأيك في هذا وأنت أستاذ الكلمات ؟
– اللّغة واللّهجة لمن يحبّها ويغار عليهما فإن ذهب الذين يغارون عليها ذهبت تدريجيّا إلى أن تصبح مسخا أو تندثر وتأتي محلّها أشباه لغة ولهجة، إنّ القضيّة الأساسيّة تتلخّص في فساد منظومة التّعليم فمستوى الإدارة المشرفة انهار ولم يعد أحد يتحمّل مسؤوليّة المتابعة والإصلاح أو البرمجة.. كلّ ما نراه اليوم وما يجري في مدارسنا وجامعاتنا يبعث الخوف على حاضر ومستقبل أبنائنا الذين لم يعد يربطهم باللّغة رابط وطنيّ ولا غيرة ولا محبّة.. هل ترى العلم المفدّى يا سيّدي مازال يرفرف في قلوب الصّغار والشّباب، لقد انفصلنا عن أهمّ رمز للوطنيّة والهويّة والانتماء فكيف سيتمسّك الأبناء بالمقدّسات.. إنّ الأجيال الجديدة ماضية في الانسلاخ عن هويّتها في كلّ شيء وهي مخترقة، بل إنّها قابلة للاستعمار الثّقافيّ والفكريّ والاقتصادي
حاوره سامي النيفر