الزعيم فرحات حشّاد وجدليّة الإصلاحي والثوري في النضال النقابي…بقلم إبراهيم بن صالح
ــ صدر هذه الأيّام عن دار محمّد علي للنشر كتاب بعنوان ” في فكر فرحات حشّاد : مقالات 1949 ” هو عبارة عن وثائق جمعها وقدّم لها الأستاذ ” الأسعد الواعر ” أستاذ تاريخ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان .
وقد جاء الكتاب في ما يزيد عن الثلاثمائة صفحة ضمّ 128 وثيقة منها المقال والبيان والرسالة والتقرير والخاطرة وغيرها من أشكال الكتابة الصحفية و23 ملحقا هي بيانات ولوائح مؤتمرات نشرها الزعيم حشاد على مدى سنة كاملة أي من 1 جانفي 1949 إلى 30 ديسمبر 1949 ممهورة باسمه تارة وباسم غيره تارة أخرى ، لكنّ الذي يجمع بين أطرافها جميعا هو المنزع الإنساني الذي يسوس تفكير صاحبها والجدلية التي كان يعقدها بين مختلف مقوّمات هذا الفكر .
الوثائق عديدة ومتنوّعة عالج فيها حشاد القضايا الاجتماعية والسياسية الوطنية والدولية، وجادل من خلالها السلط السياسية التونسية والاستعمارية بوصلته في كلّ ما كتب لوحة من القيم على رأسها قيمة الحرّية . والمقصود بالحرية في تفكير حشاد ليست التحرر من المستعمر وحسب وإنما هي التحرر من النظام الرأسمالي و من الفقر والبؤس والتشرّد والتسوّل وهي التوقّي من الآفات الاجتماعية والصحية ، وتوفير الشغل باعتباره مصدر رزق من جهة وباعتباره السبب الأساسي في توفير الكرامة للإنسان من جهة ثانية.
والمتأمّل في متابعة حشّاد للتحرّكات العمالية إضرابا واعتصاما ووقفات احتجاجية يستخلص بيسر القيمة الأساسية التي كان يثمّنها ويحضّ عليها ، هذه القيمة هي ” التضامن ” بين العمّال سواء في تونس أو بين المنظمات الشغيلة العالمية .لقد كان الزعيم حشاد يعير أهمّية عظمى لقيمة التضامن ، فهي عنده الرديف الثاني لحركة المقاومة الوطنية ضدّ الاستعمار وضدّ الرأسمالية إلى جانب قيمة الالتزام السياسي من أجل تحرير الوطن (ص84) . فلم يكن التضامن عنده مجرّد التعبير عن المؤازرة المعنوية أو التأييد اللفظي ، وإنما هو انخراط كامل مادّيا ومعنويا مع حركات التحرر ومن بينها حركة التحرر الوطني التونسية .وتقديرا منه لحركات المؤازرة والمساندة والرعاية القريبة لنضالات العمال فإنّه كان حريصا على إجابة كلّ من كان يعبّر عن التضامن مع التونسيين ويتحمّلون من أجل ذلك المضايقات الاستعمارية والملاحقات البوليسية .لقد كان الوعي رفيعا بهذه القيمة وكان التعويل عليها كبيرا لما تساهم به في خلق اللحمة الاجتماعية ودعم الروابط بين الأفراد من أجل تحقيق الهدف الواحد ألا وهو الحرية والاستقلال عن المستعمر الغاصب والتصدّي للظلم و للعملاء الذين يتعاونون مع المستعمرين .
قيمة التضامن لا يقف بها حشاد عند ما هو وطني أو محلّي بل يذهب بها حتى إلى المستوى القاري والدولي فلطالما كان يدعو إلى تمتين العلاقات بين مختلف التنظيمات النقابية القارية والعالمية ،ولم يكن حشاد يدّخر جهدا من أجل بناء حركة نقابية عالمية متضامنة في نضالاتها ضدّ رأس المال العالمي وضدّ الاستعمار بمختلف أشكاله .(ص127) . يقول :” إنّ مهمّة الحركة النقابية العالمية لم تكن في يوم ما تامّة ما دام في هذا العالم جمع من الشغالين يحني ظهره إلى نير استعماري مناف للإنسانية عدوّ للتقدّم والحرّية
ــ ورغم هذا الحماس الفيّاض الذي كان يرين على خطاب الزعيم حشاد ، فإنّه لم يصل به إلى تسويغ العنف أو القوّة المادية ، بل بالعكس لطالما كان يندّد بعنف البوليس الاستعماري ضدّ العمال المضربين أو المعتصمين وكثيرا ما كان يثمّن رصانة العمال وصبرهم على الأذى ومواجهتهم السلمية لقوات البوليس
والذي لا شكّ فيه أنّ الزعيم حشاد ما كان يتكلّم بهذا الثبات وذاك الإصرار لو لا ما كان يلمسه من عناصر القوة المعنوية في صفوف الطبقة الشغيلة . فقد كان حشاد يجوب القطر التونسي بمختلف جهاته وكان يقف على حماس العمال وعلى استعدادهم للتضحية في سبيل الوطن وفي سبيل الحقوق الاجتماعية المغتصبة وعلى تعاضدهم فيما بينهم ، لذلك حٌقّ لحشاد أن يعتبر ” الاتحاد قوّة “. يقول في جريدة ” الحرية ” بتاريخ 16 أكتوبر 1949 (ص157) : ” الاتحاد يرشد الجميع إلى الخير والعمل الصالح والمثابرة والوحدة التامة وإزالة التنافر ومحاربة التباغض ومقاومة الخمول والكسل حتى تتم وحدة القلوب بعد وحدة الصفوف وتصبح عائلة الاتحاد متماسكة الأطراف بكامل أنحاء القطر العزيز .”
هذه النظرة العقلانية للمشهد النقابي كانت تصدر عن حشاد بسبب من عدم الانسياق وراء العاطفة أو التحمس للمطالب من دون أساس رشيد . كان حشاد لا يبادر إلى عمل أو موقف أو رأي إلا بعد عرضه على محكّ العقل ، وبعد تقليبه على وجوهه فحصا وتمحيصا قصد الوقوف على مساره وعلى استتباعاته ، كانت بوصلته أنّ ” المعركة أبدية بين العقل وروح الشرّ ، ومن سينتصر من هاتين القوّتين المتصادمتين إذ كلّ منهما تحاول تغليب حججها … ” يقول : ” ليس لدينا شكّ في أنّ العقل سينتصر ” هذا هو المبدأ الذي كان يسوس تفكيره في التحركات العمالية أو في المفاوضات مع المستعمر وممثليه بتونس (ص110)
ــ انطلاقا من هذا المبدإ لم يكن حشاد يتوانى في وقاية نسق تفكيره من الهنات ومواطن الضعف ، لذلك كان يدعو دائما إلى نبذ الأنانية أو تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة . كان حشاد يحفز العمال على العمل بجدّ وإلى خدمة الآخرين قبل خدمة الذات .يقول في جريدة ” ميسيون” بتاريخ 23 جوان 1949 ” إنّ فكرة المصلحة العامة إذا فُهمت جيّدا تقود دائما الأمم إلى الرخاء والمجد ، أمّا الأنانية والمصلحة الذاتية الدنيئة فقد أدّت دائما بالشعوب إلى الانحطاط ….المصالح الفردية ليست سوى جزء صغير من المصلحة الجماعية التي هي أساس وجود المجتمع وسببه …
الظاهر بكلّ يسر في خطاب الزعيم حشاد واعتمادا على الوثائق المنشورة، أنّه لبق في كلامه بليغ في عبارته ، حاضر الحجّة ، ملمّ بتفاصيل كلّ موضوع يخوض فيه ، يحسن عرضه في منهجية قويمة ، في استراتيجية تفاوضية واضحة الأهداف دقيقة التمشي ، تدلّ على أنّه خبير بعقلية خصمه وبنواياه الخفية ، لذلك تراه يتخذ من الاحتياطات ما يؤمّنه من الوقوع في الأفخاخ التي يمكن أن ينصبها الطرف المقابل وما يمكن أن يتنازل فيه وما لا يمكن التراجع عنه من المطالب بل هو يندّد خاصة برفض الأعراف وأصحاب السلطة النقاش مع النقابات يقول في الصفحة 188 متحدّثا عن عمال الفلاحة :” هرعوا إلى الإضراب بسبب رفض أساطين الأرض التحاور معهم ..ولن نسأل عن تواصل حركة عمال مناجم الجريصة لأننا نعلم أنّ مدير المنجم ما زال مصرّا على رفض أيّ نقاش مع الاتحاد العام التونسي للشغل …بل حتى مدير التعليم العمومي قد أصابته العدوى ، إذ يرفض بدوره النقاش مع نقابتنا حول موضوع يدّعي أنّه من صلاحياته فقط … إنّ تشدد الأعراف هو السبب في تصاعد حركات الإضراب .”
والغالب على الظنّ أنّ رفض النقاش والتحاور مع النقابات وإن كان يعود إلى أسباب اقتصادية في جانب منه ، فإنه لا يخلو من أبعاد سياسية لذلك يحرص الأعراف والسلط على اجتنابه . والحقّ أيضا أنّ المتابع القريب لخطاب الزعيم حشاد لا تخطئه نزعة الجمع بين ما هو نقابي وما هو سياسي ، بين المنزع الإصلاحي والمنزع الثوري ، المنزع الإصلاحي متمثلا في الدفاع عن مطالب الشغيلة اليومية كتحسين الأجور والاحتجاج على ارتفاع الأسعار وحقّ أبناء العمال في التعليم ومختلف التغطيات الاجتماعية والمنزع الثوري متمثلا في الدعوة الصريحة إلى مناهضة الاستعمار والتصدّي للنظام الرأسمالي ، وفي المطالبة بالحريات الفردية والعامة .
إنّ هاتين النزعتين وإن كانتا تتكاملان ، فذاك لا يعني أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل كان ينشغل بالسياسة بالمعنى السياسوي لأنه لم يكن من مطامحه غزو السلطة أو تولّي نظام الحكم بدلا من المؤسسات القائمة
كان الاتحاد يشتغل بالسياسة بما هي اختيارات اقتصادية واجتماعية ذات انعكاسات على حياة العمال وعموم الشعب وفي ما عدا هذا فإنّ الاتحاد لم يكن يعتبر نفسه طرفا سياسيا كشأن الأحزاب السياسية التي همّها الأساسي إدراك السلطة وحكم البلاد .لكنّ ذلك لا يعني أيضا استقالة الاتحاد من الشؤون المستقبلية التي تهمّ مصير الشعب . كان حشاد يهتمّ بما هو يومي بنفس القدر الذي يهتم فيه بما هو مستقبلي
ومن أجل إدراك العلاقة بصفة جيّدة بين النقابي والسياسي أو بين الإصلاحي والثوري كان لزاما على حشاد أن يحرص على الديموقراطية داخل هياكل الاتحاد كآلية لتسيير المنظمة بنجاح فكان يتابع المؤتمرات الجهوية والمؤتمرات الوطنية ويقف على بياناتها وعلى مدى تعبيرها عن شواغل العمال مثلما كان يحرص حرصا شديدا على استقلالية الاتحاد حتى لا يؤخذ على أنّه جهاز يعوّض الأحزاب أو يقوم مقامها في المطالب السياسية أو الاقتصادية .
كتاب جدير بالقراءة والتدبّر لاستخلاص الدروس والعبر من نضال القادة الأوائل
ـ رحم الله الزعيم فرحات حشاد
إبراهيم بن صالح ــ متفقّد عام للتربية ـ متقاعد ـ
صفاقس ــ نوفمبرـ 2025
ملاحظة : المقال هو خلاصة محاضرة قدّمتها على منبر المكتبة الجهوية بصفاقس يوم السبت 8 نوفمبر 2025







