اللغة العربية في الإعلام … الواقع والرهانات…فاطمة مقني القادري
تفشّت ظاهرة ملفتة في وسائل الإعلام الوطنيّة العموميّة منها والخاصّة، سواء فيما يتعلّق بالصّحافة المكتوبة أو الإلكترونيّة أو السّمعيّة البصرية وهي ظاهرة اللغة المزدوجة.
بشكل عامّ، يطرح الموضوع مسألة الخطاب الإعلامي في إطاره الجغرافي والاجتماعي والسّياسي. ويبدو المشهد الإعلامي والاتّصالي، في مستوى الخطاب اللّغويّ في حال معقّدة ، تتطلّب الوقوف عندها، لأسباب عديدة. أوّلها أنّ اللّغة هي المفصل العصبي الذي يحرّك المدلولات الأساسيّة في الرّسائل التي يصوغها الخطاب الإعلامي و الاتّصالي. أمّا السّبب الثاني، فيتلخّص في المهارة الحرفيّة التي تسند ذلك الخطاب وتؤهّل مؤدّيه للوقوف في موقف باعث الرّسالة أو باثّها.
سبب ثالث لا يقلّ أهمّيّة عن سابقيه وهو الفكر المرجعيّ الثّقافي والسّياسي والاجتماعي الذي يسند ذلك الخطاب.
لقد عانى الإعلام منذ بروزه من القمع والمطاردة على مـرّ الحقبات التّاريخيّة انطلاقا من فترة الحماية مرورا بانتــصـاب الدّولة الوطنيّة ووصولا إلى الرّاهن. وقــد سعــــت السّلطة السّياسيّة إلى إدماجه في «معجم» اللّغة الخشبيّة وغلّفت ذلك بالّدعاية إلى ما سمّي باللّغة الثّالثة التي ادّعت من ورائها تبسيط الخطاب الإعلامي وإيصاله للمتلقّي، إبّان بناء الدّولة الوطنيّة، متعلّلة بتفشّي الجهل الذي تعمّد الاستعمار الفرنسي أن يبقي عليه في المجتمع لتيسير سيطرته عليه ولاستغفاله عن حقوقه وحرّيّته المسلوبة. على أنّ كلّ هـذه المســاعي لتشويه لغة الخطاب الإعلامي، لم يقابلها تهجين للغة البلاد الدّستوريّة والتي بقيت الأداة اللّغويّة الأساسيّة في الإدارة والتّعليم والإعلام العمومي. كما أنّ ترسّخ العربيّة الفصحى لم يسيطر على اللّسان الدّارج المحلّي الـذي اتّخذ مسار تطوّره، بل وكانت للفنون وخاصّة منها السّينما والمسرح والغناء، مساهمة فعليّة في تألّقه وترسّخه في الحياة اليوميّة للمجتمع. صحيح أنّ ازدواجيّة اللّغة تعود إلى فترة بعيدة، ولكنّها بقيت في حدود الخطاب الاجتماعي اليومي، ولم تتعدّاه إلى الخطاب الإعلامي الذي بقي محـافظا على وحدة اللّغة المستعملة، وذلك باستثنـــاء بعض القنـــوات السّمعيّة والبصريّة وبعض الصّحف في القطاع الخاصّ، في حين التزم الإعلام العمومي بوحدة اللّغة.
الانفلات اللّغوي
ما نشاهده اليوم وبعد أحداث 14 جانفي 2011، هو انخراط الخطاب الإعلامي والاتّصالي في هذه الازدواجية اللّغويّة والتي أصبحت بمثابة الطّابع المميّز للرّاهن الموسوم بحرّيّة التعبير. ما وقع هو خلط بين حرّيّة التعبير من جهة والانقلاب على الطّابع الرّسمي والقدسي أيضا للّسان العربي الفصيح منه والدّارج. ذلك أنّ الرّأي السّائد يذهب إلى أنّ اللّغة الرّسميّة هي لغة موسومة بسيطرة السّلطة أي أنّها مفروضة من قبلها وأنّ الحراك الاجتماعيّ الذي عقب أحداث 14 جانفي، بما هو هادم لأركان السّلطة السّياسيّة، وهو يقود بالضّرورة إلى تكسير روافد هذه السّلطة ومن أهمّها في الخطاب الإعلامي والاتصالي اللّغة التي كان «يفرضها».
هل أنّ النّظام القائم هو الذي فرض استعمال اللّغة العربيّة؟ أم أنّها كانت لغة المجتمع التي لقّنها منذ قرون والتي حاولت سلطة الحماية أن تطمسها و تستبدلها بلغتها هي؟
انفلتت الازدواجيّة اللّغويّة من عقالها ومدّت الإعلام، فجر الأحداث، بصيغ خطابيّة يختلط فيها مزيج من اللّهجـــات واللّغات تنقّطها العربيّة بشيء من الاستحياء. احتجّ البعض فقيل إنّ العربيّة لم تتطوّر إلى مستوى العلوم والتّكنولوجيات الحديثة ممّا يضطرّ بعـــض الإعلاميّين إلى التّعبير بلغات أجنبيّة.
والسّؤال الملحّ في هذا الوضع يتعلّق بمنهج الاتّصال والإعلام: إلى مــــن يتوجّه الإعلاميّون الاتّصاليّون في تونس؟ هل إنّ اللّغة المزدوجة يمكن أن تؤدّي وظائف الإعلام والاتّصال في بلد يستعمل أهله اللّغة العربيّة والدّارجة المحلّيّة؟
من المعلوم أنّ الشّخصيّة الأساسيّة التّونسيّة تتّسم بقابليّتها لإتقان اللّغات الأجنبيّة، إلاّ أنّ هذه الخاصّيّة لا يمكن أن تطمس اللّغة الأمّ لهذه الشّخصيّة كما لا يمكنها أن تؤول إلى الخلط بين الاستعداد الفطري لتقبّل اللّغات الأخرى وحفظها من جهة والذّوبان فيها ثقافيّا واجتماعيّا وعلميّا، من جهة أخرى. هذا الخلط لم يكن يمثّل واحدا من المحاذير التي يشكّلها التّعامل مع التّعدّد اللّغوي، حينما كانت المدرسة تركّز على الإنسانيّات في التّكوين العامّ للتّلميذ حيث يبدأ تحصيله بدراسة اللّغة وتلقّيها في تعبيراتها المختلفة جماليّ من شعر ونثر وتربية دينيّة ومدنيّة تدرّجا نحو لغات أخرى وتعبيرات فكريّة وجماليّة تفتح له نوافذ للإطلال على عوالم مختلفة ينظر إليها انطلاقا من بيته أي من لغته كما يسمّيها الألسنيّون.وهو ينمو، يتشبّع بجماليّة لغته مـــن خلال تعامله مع مجتمعه وتواصله معه بواسطة اللّغة نفسها. إلاّ أنّ الخطاب الإعــلامي والاتّصالي ذا اللّغة المزدوجة ،منذ 2011، صـادر في أغلبه عن جيل تصادف فترة تمدرسه تهميش الإنسانيّات لفائدة العلوم الرّياضيّة والتّكنولوجيّة.وهو ما يطرح بحدّة مسألة العلاقة بين المرجعيّة الفكريّة والتّعامل مع لغة التّخاطب، سواء في الإعلام والاتّصال أو في التّواصل الاجتماعي. إذ لهذا الوضع محاذير تتّصل بالتّفسّخ على جميع هذه المستويات الثّقافيّة والاجتماعيّة والعلميّة.
إنّ التّمرّد على السّلطة عـــن طـــريق نكران إمكانات اللّغة لا يفضّ الخلاف معها لا من النّاحية الثّقافيّة ولا من النّاحية السّياسيّة. لأنّ تلك حرب خاسرة تذهب اللّغة ضحيّتها ولأنّ عجز اللّغة وركودها لا يعودان إلى طبيعتها بقدر ما يعودان إلى تعامل السّلطة مع البحث العلمي وتحنيطه المخطّط وإرادة ركوده.
معجم الإزدواجيّة اللّغويّة، تأليف صنّاع الرّأي العامّ
هل أنّ للإعلام والاتّصال وعي بخطورة هذا الوضع؟ وإلاّ فكيف يتعامل مع وضع اللّغة و»جمودها» باتّخاذ بديـــل هـــو الازدواجيّة اللّغويّة ادّعاء بأنّ اللّغة العربيّة تفتقر إلى كثير مـــن المصطلحات العلمـــيّة والفكريّة والتّكنولوجيّة. والحال أنّ الخطاب الإعلامي والاتّصالي بعد 14 جانفي 2011، لا يقتصر في ازدواجيّة لغته على ما يدّعيه من مصطلحات علميّة أو تكنولوجيّة بل ويتعدّى ذلك إلى أبسط العبارات البديهيّة في الخطاب اليومي والتي لا تخلو منها العربيّة أو الدّارجة بل وتتوفّر منها على أجمل التّعابير وأرقاها.
لست أدّعي في هذا المقام، الذّود عن اللّغة العربيّة في بعــدها القدسي ولا في بعـدها الاجتماعي. ولا أعتقد أنّ العربيّة في حاجة إلى إثبات ديمومتها وهي اللّغة التي أكّد البحّاثة والألسنيون بمن فيهم المستشرقون استدامتها وصمودها لما يناهز الثّمانية قرون وهي النّسبة التي تتحدّد بها استمراريّة اللّغة، أيّ لغة كانت. لكنّ هذا المعطى لا يبرّر الاطمئنان على حيويّة اللّغة العربيّة في تعامل العرب معها والتفاتهم عنها إلى لغات أخرى و لهجات أخرى، بدعوى عجزها وفقرها وغربتها عن الحقل العلمي والتّكنولوجي. والحال أنّ مأخذ العجز والفقر الذي يوجّه إليها مرجعـــه ليس اللّغة في حدّ ذاتها، ولكنّه يعود إلى الهزّات التي مرّت بها أوّلا جرّاء الخلفيّات الإيديولوجيّة الاستعماريّة، ثمّ جرّاء تعامل الأنظمة الوطنيّة مع اللّغة وتأطيرها بقوالب جاهزة: القدسيّة والرّسميّة. واعتبـــارا للـــدّور الذي تضطلع بـــه المدرسة في تطوّر اللّغة وديمومتها وإنعاشها بالبحث وإنمائها بالتّجربة الإنسانيّة عامّة، فإنّ المدرسة سلكت مع التّحصيل اللّغوي مسلكا يعتمد على القواعد الجاهزة وعلى وتيرة في التّحصيل لا تتماشى مع النّموّ الثّقافي والاجتماعي لطلاّب العلم. ولنا في أثر ابن خلدون ما يؤكّد نقده لكتب النّحو والبلاغة التي يرى في اعتمادها بشكل مركّز، استلابا لاستعداد النّاشئة لحذق اللّغة ورغبتهم في حذقها. وبالمقابل، فهو يعتبر أنّ أفضل طريقة لتعليم اللّغة والتّمكّن منها هي الشّواهد من شعر ونصوص ملحميّة ومقامات تتجلّى فيها جماليّة اللّغة وخصائصها وخبايا مدلولاتها وإمكاناتها الأسلوبيّة والسّيميولوجيّة. وهي الطّريق إلى نشأة الذّوق أوالذّائقة التي يكتسبها المحصّل فتقوى علاقته باللّغة وتنمو رغبته في تطوير المبحث العلمي والفكري ولم لا التّكنولوجي عن طريق لغته التي تترسّخ لديه كجزء من انتمائه وهويّته الاجتماعيّة والثّقافيّة والإنسانيّة أيضا.
إنّ ظاهرة تهجين اللّغـــة في وســـائل الإعــلام والاتصال تبدو، في أصلها، نتيجة طبيعيّة للمسار السّياسي والإيديولوجي الذي تدرّجت فيه اللّغة العربيّة. لكنّ تفاقم أعراضها بعد أحداث جانفي 2011، ينـــدرج في الظّاهرة الأخرى الأشمل وهي ظاهرة الانفلات الإعلامي الذي كشف عن ضعف المرجعيّة الاحترافيّة لعدد من الإعلاميّين والاتّصاليين. وقد لعب التّشكيك في ضرورة حياد الإعلاميّين دورا هامّا في هذا الانفلات إذ فتح المجال إلى خطاب إعلامي متلوّن بالإيديولوجيا. وإضافة إلى ذلك، بدا هذا الخطاب مراودا للرّغبات الحسّيّة للمتقبّل، دون حاجاته إلى الخبر وإلى المضامين الفكريّة والسّياسيّة التي حيّرت الأحداث أسئلتها وأعادت صياغتها. أصبح الخـطاب الإعلامي والاتصـــالي واجهة للتّقليعات السّياسيّة والعقائديّة والاجتماعيّة تصوغه، لغة هي الأخرى تقليعة لسانيّة، يعامل فيها المتلقّي بمثابة المتطلّع إلى قالب يشكّل حسبه آراءه السّياسيّة وأفكاره ويلقن (بعبارة المصطلح الخلدوني) لغة بديلة لهويّته التي أربكها الاغتراب التّربوي والثّقافي والاجتماعي.