باريس ترحب بي……الطاهر العبيدي
في بداية وجودي بباريس كنت أسوق سيارة، فاختلطت عليّ الطرق والإتجاهات. أنهار من السيارات تسيل من تحتي، من فوقي، على يميني، وعلى يساري.. وابتلعتني الأنفاق التي ربما قد تقذفني إلى أنفاق الشعانبي ومنها الى أنفاق غزة كما ذكرها الصحفي التونسي العلامة – لطفي العماري – ، وأول طريق اعترضني اتجهت إليه كي اتحاشى هذه العاصفة، وأهرب من هذا الهرج. ووجدت سائقي الطريق المقابل لاتجاهي يحيوني، من نوافذهم. وآخرين يطلقون إشارات تعجب واستغراب، وبعضهم معجبين بي من خلال المبالغة بالتزمير والتصفير. فقلت في نفسي هذا الترحيب أو بلاش، فكم الناس هنا متأدبين ومتحضرين.. وأمام هذا الاهتمام بي تساءلت؟ من حكى لهم قصتي أني أنا اللاجي السياسي التونسي، الذي فر من محكمة الكاف أثناء النطق بالاحكام، حتى رحبوا بي بمثل هذه الحرارة، احتفاء بجرأتي، وركوبي المغامرة. كنت أبادلهم التحية مبتسما، ولكن أقل ضحكا منهم، فهم كانوا يقهقهون ويصيحون ويصفرون، حتى قلت بيني وبين حالي، لو كنت على الأرض لرفعوني على الأكتاف، ولهتفوا بالروح بالدم نفديك،
- يا معلم يا شاَف – يا وُلدْ مدينة الكاف – بالروح بالدم نفديك يا طاهر بِالمِجَدْ أنت عَرْبِي أبْ عَنْ جَدْ –
وبينما أنا على هذه الحال، بين التعجب والافتخار من هذا الذي بدا لي ترحيبا وحسن استقبال..
حتى توقف إلى جانبي أحدهم وقال لي هل أنت بخير؟ أو تستحق سيارة إسعاف؟ أو نطلب لك النجدة والحماية لحملك لقسم الأمراض العقلية والنفسية.. ولما رآني مصدوما من سؤاله! أجابني إنك تسير في إتجاه معاكس لثلاث طرق مليئة بالسيارات وأنت تعترضهم، إنك ستتسبب في كارثة. وهنا انتبهت أتي أسير في الممنوع، وضد التيار وأصطاد في الماء العكر على حد قول المرحومة تلفزتنا التونسية الموقرة.. فوقفت كي أعود من طريقي، وطبعا عطلت حركة المرور. وأربكت سمعي مزامير السيارات المحتجة بعصبية. وبدأت كثور إسبانيا (أمرِّحُ) مرة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، واستوي كي أعود في اتجاه الخَلقْ. وهنا سمعت عبارات الترحيب الحقيقية، مجنون، غبي، مزطول، حيوان، سفاح طرقات، هارب من البوليس.. وأدركت أن تلك الاشارات والتحيات ليست إعجابا كما توهمت. بل هي احتجاجات بالإصبع الوسطى، ومعها (بونيس) من السباب من تحت النصف السفلي..
من محدثكم إبن الكاف العالي،
أكيد (نَوّرْتْ ليكم وجوكم). وأعتقد أني استحق منكم تحيات حقيقية، في انتظار
تمثيلكم في محطات أخرى فترقبونا..