بسبب “الإبادة التعليمية” تلاميذ غزة حرموا من حقهم في التعليم….لبنى حمودة
شهر أيلول والسحاب المزجي وزخات المطر ورائحة القهوة مع الكنافة الغزاوية والمحافظ ذات الألوان الزاهية وأجمل الثياب والقرطاسية وحماسة الأطفال وضحكاتهم, كل تلك التفاصيل وغيرها والتي تتكرر مع كل عودة مدرسية غابت هذه السنة عن بيوت غزة, كانوا 700 ألف تلميذ وطالب فأصبحوا حوالي 630 بعد أكثر من 11 شهرا من الحرب, 630 ألفا حرموا من حقهم في التعليم بسبب وحشية آلة الدمار الإسرائيلية التعليمية التي لم تصادر أبسط حقوقهم فحسب, بل صادرت حتى حقهم في الحياة.
إسرائيل تصادر حق التعليم في غزة
في بيان صدر عن خبراء أمميين مستقلين جاء فيه, أن تدمير إسرائيل لأكثر من 80 في المائة من البنية التحتية التعليمية له تداعيات كبرى على المدى البعيد, فهو يحرم جيلا كاملا من الفلسطينيين من مستقبلهم, وأضافوا “عندما يتم تدمير المدارس يتم تدمير الآمال والأحلام كذلك”, ومصطلح إبادة تعليمية حسب الخبراء هو المحو الممنهج للتعليم من خلال الاعتقال أو الاحتجاز أو قتل الطلاب والمعلمين والموظفين وتدمير البنية التحتية التعليمية, وهو ما حصل في قطاع غزة على مدار أكثر من 11 شهرا, حربا لم يشهد لها التاريخ مثيلا في شراستها, حربا لم تبق لا على بشر ولا على حجر حتى الجثث لم تسلم إذ تبخرت من شدة القصف ونوع الأسلحة المحرم دوليا, جيش مدجج بأعتى الأسلحة في مواجهة شعب أعزل لا يملك غير تاريخه المجيد, الذي حولته هو الآخر إلى رماد, فما بقي معلم تاريخي إلا ودمر ولا متحف إلا ونسف, وكان التعليم ضمن لائحة بنك الأهداف وكما فعل هولاكو في العراق حينما حول نهر دجلة إلى لون الحبر, بسبب الكتب التي أتلفت فيه, حولت الترسانة الإسرائيلية البنية التحتية التعليمية إلى أثر بعد عين.
وتشير إحصائيات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية, أن أكثر من 10 آلاف طالب و500 معلم و110 محاضرين وأساتذة جامعيين استشهدوا, كما أصيب 15 ألف طالب و2400 معلم بجروح, وغادر 19 ألف طالب القطاع مع بداية الحرب, ونزح مئات الآلاف منهم الذين يعيشون حاليا في الخيام, في حين تخلف 58 ألف طفل بالصف الأول عن الالتحاق بمقاعد الدراسة مع بداية العام الدراسي الجديد, ووفقا لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية, فقد كان القطاع قبل الحرب يضم 796 مدرسة منها 442 مدرسة حكومية, و284 مدرسة تابعة لأونروا, و70 مدرسة خاصة, و17 مؤسسة جامعية, وبعد الحرب تضرر90 في المائة من تلك المؤسسات وما بقي من مدارس استخدمتها الأونروا مأوى للنازحين, وتعرض أغلبها للقصف والمجازر وما مجزرة مدرسة صلاح الدين, والعودة وكفر قاسم وغيرها إلا دليلا على غطرسة الجيش الإسرائيلي ووحشيته.
خيام مدرسية ودراسة عن بعد حلول للتخفيف من وطأة الجهل جراء الحرب في غزة
“كلما طالت فترة بقاء الطفل خارج المدرسة, كلما زاد خطر تركها بشكل دائم وعدم العودة إليها”, هكذا صرحت تيس إنغرام المتحدثة الإقليمية باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”, وأضافت أن الأطفال الأصغر سنا معرضين لإشكاليات في نموهم المعرفي والاجتماعي والعاطفي, أما الأطفال الأكبر سنا فهم معرضون لخطر أكبر كالعمل في سن مبكر أو الزواج المبكر.
ومن غزة ومبدأ المسؤولية, ومقاومة الاحتلال على جميع الأصعدة, ولأن مقاومة الجهل الذي يفرضه الاحتلال كسلاح بعيد المدى, من أسمى أنواع المقاومة وأنبلها فقد ارتأت ثلة من المدرسين, أن تدخل معترك الحرب, وترفع سلاح العلم في وجه الجهل وتدحره من أرض العزة, والتي بينت آخر الإحصائيات قبل الحرب أن الأمية شبه منعدمة في غزة, وتقتصر على كبار السن, وتعد فلسطين من أقل المعدلات أمية في العالم, وكمحاكاة للمدارس تم تهيئة بعض الخيام المدرسية, والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون بديلا للمدرسة وإطارها التربوي, لكنها تبقى مبادرة لإنقاذ العملية التعليمية في غزة, وتقديم الدعم النفسي للأطفال, ومن جهتها عملت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا), على دعم المبادرة بتوفير خيم مدرسية وقاعات في مراكز الإيواء, والتي كانت مدارس قبل أن تتحول لمراكز لإيواء النازحين.
ومن الضفة الغربية تطوعت ثلة من المعلمين, لتدريس تلاميذ غزة عن بعد, بعد أن أعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية عن افتتاح موقع إلكتروني لتسجيل طلبة قطاع غزة في جميع المراحل التعليمية, ويأتي الموقع تمهيدا لإطلاق المدارس الافتراضية, وتأتي هذه الخطوة في إطار محاربة الجهل الذي تفرضه إسرائيل بسلاح العلم, ورغم أن هذه المبادرة تعد انتصارا, إلا أن هناك من الطلبة من لا تسمح ظروفه بالتسجيل والدراسة عن بعد, التي تفترض توفر أدوات كالهواتف الذكية, أو الحواسيب والإنترنت.
إن الطفولة في غزة تعد بنك أهداف بالنسبة للجيش الإسرائيلي, فمن نجا في بدنه, استهدفته في عقله, وفتحت في وجهه نيران الجهل, إن الطفل الذي كان بالأمس القريب يتقد حماسا مع كل عودة مدرسية, حكمت عليه الحرب بالأشغال الشاقة, فأصبح يقطع المسافات الطويلة لجلب الماء وهو حافي القدمين, ثم يقف بالساعات الطويلة في طوابير للحصول على الطعام, حاملا بين يديه الصغيرتين آنية يلوح بها طوال الوقت, وبين هذا وذاك يقف أمام بسطة يبيع بعض المواد ليعيل عائلته النازحة, لقد كبر طفل الأمس المدلل قبل أوانه عشرات السنين, ورغم ذلك لم ينس حلمه ولم تنل آلة الدمار الإسرائيلية الوحشية من عزيمته, فها هي الأخبار تأتينا تباعا عن مئات الأطفال يدرسون بالخيام, والآلاف على قائمة الانتظار, وها هو الطفل المعجزة وسط كل الظلام الذي يحيط به من كل جانب يضيء شمعة, شمعة العلم ويعلمنا درسا في النضال.
لبنى حمودة