
بين ثقل الأحلام وهاجس السقوط: البكالوريا وقلق التلميذ التونسي…اشرف المذيوب
في زاوية من زوايا غرفة ضيقة، يجلس تلميذ لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، يحمل في عينيه قلق جيل بأكمله، وفي يديه كتاب ثقيل لا يُثقل الورق فقط، بل الروح أيضًا. هو ليس تلميذًا فقط، بل مشروع طبيب، مهندس، أستاذ، وربما مجرد اسم في لائحة “الراسبين”، يخشاه المجتمع ويُجرّمه الأهل وتُلاحقه نظرات العتاب في الشارع.
في تونس، لا تُعتبر البكالوريا امتحانًا فحسب، بل عبورًا مقدسًا من الطفولة إلى الرجولة، من الحلم إلى الحقيقة، من الأمان النسبي إلى عراء الاحتمالات. يقف التلميذ على عتبة هذا الامتحان كمن يقف على حافة هاوية، يحمل على ظهره حقيبة مملوءة بكتب ومفردات، وعلى قلبه حقيبة أثقل، مملوءة بتوقعات، وخوف، وصراع داخلي لا تراه العيون.
القلق هنا ليس ترفًا نفسيًا، بل هو رفيق دائم. يزورهم ليلًا، فيسهرون في حضرته بين المعادلات والتواريخ، بين الأفعال الماضية وخرائط البلدان، ثم لا يتركهم نهارًا، إذ يرافقهم إلى المعاهد، إلى المطاعم، حتى في صمتهم، حتى في أحلامهم. هو أشبه بشبح ودود يعرف جيدًا كيف يُقنعهم بأنهم “لم يراجعوا كفاية”، وأنّ الفشل قادم، لا محالة.
لكن من قال إن القلق ضعف؟
من قال إن الخوف عار؟
القلق في جوهره اعتراف ضمني بأهمية الشيء، هو دليل على أن للحلم وزنًا، وأن للمستقبل قيمة. التلميذ القَلِق هو التلميذ الذي لا يريد أن يخسر نفسه، لا يريد أن يخيّب أمل والدته، التي تنتظر نجاحه كما تنتظر الأمهات جنودهنّ العائدين من الحرب. لا يريد أن يرى والده ينكس رأسه في صمت حين يسأله الجيران عن النتيجة. هو لا يخاف الورقة، بل يخاف الانكسار.
في بلادٍ تُقاس فيها قيمة الإنسان بمعدّله، يتحوّل التلميذ إلى رقم. يُصفّقون له إن نال 18، ويُرثى له إن نال 9. لكن لا أحد يسأل عن ليالي السهر، عن نوبات البكاء المكتومة، عن الحرب النفسية التي يخوضها كل يوم وهو يجلس إلى طاولة المراجعة، بين فوضى الكتب وصمت الوحدة.
أيها التلميذ التونسي،
اعلم أنّك لست وحدك. وأن هذا القلق، رغم قسوته، جزء من الرحلة. لكن لا تسمح له أن يُطفئ وهجك. اجعل منه وقودًا، لا قيدًا. لا تجعل خوفك من الفشل يسرق منك بهجة الحلم. فالبكالوريا، مهما كانت عظيمة، ليست مقياسًا لقيمتك، وليست نهاية الحكاية. هناك حياة بعد الورقة البيضاء، هناك آفاق لم تُكتب بعد، وهناك نجاحات لا تصنعها الامتحانات بل تصنعها الإرادة.
خفّف عن قلبك، فالعصافير لا تخاف من السقوط، لأنها تعرف أن لها أجنحة. وأنت كذلك، لك عقل، ولك عزيمة، ولك الحق في الخطأ، وفي النهوض، وفي أن تصنع مستقبلك على طريقتك، لا على هوى الآخرين.
فكن شجاعًا، لا في يوم الامتحان فقط، بل في كل يوم تختار فيه أن تؤمن بنفسك رغم كل شيء.