تونس : الأزمـــة والآفــــاق الصعبة …ماهــــــــــــر عبد مـــــولاه
تتعالى العديد من الأصوات والنداءات إمّا بهدف تغيير النظام السياسي (التونسي)، أو تعديله، وهناك من يكتفي بالمطالبة بتنزيل المحكمة الدستورية (التي طال غيابها)، ومنهم من يطرح حل مجلس نواب الشعب وهناك من يدعو إلى الفوضى، ربما بدون وعي حتى لا نقول شيئا آخر. وننزّه في الوقت نفسه العديد ممّن ينساقون وراء شعارات التي تخضع في هذه المحطّات التاريخية “للعنف الثوري” والإيديولوجية وتأثير الحركات الجماعية (Les mouvements de masse)، حسب تصنيف علم الإجتماع وكذلك الفكر السياسي.
وهؤلاء هم عامّة الشباب، مدفوعين بالحماس والإرادة والرغبة في التغيير من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهذا مطلب إنساني، منطقي وشرعي. لكن، هناك كذلك، وسط هذا الزّحام والزّخم (الذي يختلط فيه الحابل بالنابل)، من يعمل ضمن سياقات تثير الشكوك والإستغراب…
وهناك كذلك من يجتهد من منطلق وطني، فيفكّر ويتدبّر ويخطّط ويرسم الأهداف حسب متطلّبات المرحلة ووفقا لقراءة تتداخل فيها العناصر الدّاخلية والإقليمية والدولية، أي ضمن إستراتيجية، أو ما يعبّر عنه بالمجال الجيوسياسي (Géopolitique)، الذي اعتلى شأنه في إطار التحوّلات التي فرضها “الربيع العربي”، لفهم النّسق السّريع والمتسرّع في العلاقات الدوليّة ورصد ميزان القوى من أجل إعادة التموقع والاستفادة…
ولا شكّ أنّكم تتذكّرون شعارات القصبة التي نادت بمجلس تأسيسي وبنظام برلماني (وأطاحت بدستور 1 جوان 1959)، ليتّضح فيما بعد أن تلك المطالب غلب عليها الطابع الانفعالي وافتقدت إلى المعرفة والتجربة والعمق (بدليل الحنين إلى النظام الرئاسي…)، وزاد في حدّتها فيما بعد تعثّر المسار الثوري والانتقال الديمقراطي. حيث غابت العدالة الاجتماعية وتدهورت الأوضاع خاصة الإقتصادية، لأسباب عديدة ومعقدة لا داعي لسردها في هذا الإطار، مع تسجيل بعض المكاسب على مستوى الحريات حتى لا نكون لا جاحدين ولا ناكرين.
على كلّ، فجلّ هذه المواقف والآراء تترجم على وجود أزمة سياسية عميقة، لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف عليها (ولو أنّ البعض يبالغ من أجل تحقيق بعض المآرب الذّاتية).
لكن، بادئ ذي بدء، يجب التفريق بين صنفين من المحتجّين :
- الصنف الأوّل/ هذا الصّنف يستند في مطالبه إلى الدستور والقانون والمؤسسات…، وبالتالي فهو يستعمل الآليات المتاحة والمباحة، أي الشرعية، وتتمثل في النقد والتنديد والاحتجاج والضغط والتظاهر…، وهي وسائل الدّيمقراطية مثل ما يقع في العديد من العواصم كلّما احتدّت الأزمات (على غرار ما يقع في فرنسا من خلال حركة السترات الصفراء وما يقع في أمريكا ضد الميز العنصري…). وهذه الآليات والوسائل هي كذلك للتّنفيس على السلطة حتى لا يحصل الصّدام وتمكين النظام “الديمقراطي”، من التقاط الأنفاس والرسكلة وبالتالي ضمان الإستمرارية والمحافظة على شعرة معاوية. وهذه خصائص الفكر الليبرالي الرأسمالي والاجتماعي وحتى الإشتراكي في نسخته الحاليّة، بعد انهيار الشيوعية في موطنها ومهدها،
- الصنف الثاني / هذا الصنف لا يُعيرُ للقانون والدستور وحتى للدولة أي اعتبار ويتغذّون فكريّا من بعض المقاربات الراديكالية والهلاميّة (وهم بيننا). فمثلا إذا وقع التمرّد على البرلمان، فهو من ناحية انقلابا على الشرعية وهنا لا يختلف اثنان حول هذا التّوصيف والتّصنيف. وهنا لا تجوز المقارنة مع ما حدث في تونس إبّان الثورة، حيث أن المؤسسات السياسية كانت فاقدة الشرعية بما أن الإنتخابات كانت شكلية وصورية وهذا معلوم لدى الجميع (ولو أنّه لا يروق للبعض). ومن ناحية أخرى، أي على المستوى العملي والفعل السياسي، فما هي الخطوة التي ستلي الإنقلاب على البرلمان الذي سينعكس كذلك على الحكومة بما أنها منبثقة عنه، فهو الذي زكّاها من خلال منح الثقة ؟
فإمّا تنصيب أشخاص ليست لديهم أي شرعية (بما أنّهم غير منتخبين ولا يعبّرون ولو شكليّا على إرادة الشعب)، ولا نعرف ولاءاتهم وكيف سيحكمون ويتحكّمون…؟ وهذه مغامرة ومجازفة خطيرة ربّما تجعل حتّى القائمين عليها (وعرّابها)، يتحسّرون على ما فاتهم وعلى ما اقترفت أيديهم (والأمثلة كثيرة في هذا الشأن يكفي إلقاء نظرة على يميننا أو على شمالنا جغرافيّا).
وإمّا يقع إعادة المسار الصّعب الذي عشناه بعد 14 جانفي 2011، أي الدّخول في مسار تأسيسي (دستور جديد)، خاصة وأنّ من بين المنتمين إلى الصّنف الثاني من يدعوا إلى تأسيس جمهورية ثالثة. وهنا أتساءل هل أنّ هذا المسار ممكن ومستساغ وسط الأزمة الإقتصادية الخانقة التي نعيشها ؟ لا أعتقد ذلك.
وفي المقابل، وهو مجرّد رأي، وأعتقد أنّ تحقيقه ممكن (والسياسة هي فنّ الممكن)، المطالبة ببعض العناصر وإمهال السياسيين فترة من الزّمن لتحقيقها (فيمكن الانتظار إلى غاية جوان 2021)، وإلاّ يقع التصعيد من خلال أشكال نضاليّة…، ومن بين المطالب التي يمكن تحقيقها :
- التخفيض من امتيازات السياسيين، على مستوى رواتبهم ومنعهم من استعمال السيارات الإدارية والسّفر إلا للضرورة التي تقتضيها المصلحة الوطنية …، وهذا يصبّ في ترشيد النفقات العمومية (مال الشعب أو المال العمومي)، الذي سينعكس إيجابيّا على الخزينة العامة وبالتالي على الخدمات والمرافق العموميّة. هذا الإجراء له انعكاسات عميقة، فهو عامل محدّد في التمثيل السياسي، بما أنّ التقليص في الإمتيازات سوف يكون سببا في إحجام العديد ممّن يبحث على الغنيمة من الترشح للإنتخابات. هذا الإجراء أنجع من تعديل قانون الإنتخاب الذي يبقى ضروريا من أجل تحقيق استقرار على المستوى السّياسي. وينطبق كذلك هذا الإجراء، الهام، على كبار المسؤولين في الإدارة والمؤسسات العمومية…
- الضغط من أجل إعادة النظر في قانون الجباية من خلال اعتماد ضريبة على الثروات، وكذلك فرض ضريبة معقولة ومناسبة على بعض المهن الحرة (والميسورة)، التي تتهرّب من واجبها الوطني مستعينة ببعض المنظمات النقابية والمهنيّة،
– تمكين العاطلين عن العمل من التمتّع من النقل المجاني وتمكينهم من امتيازات أخرى خاصة التي من شأنها إدماجهم في الدورة الإقتصادية (في الحياة).
– تخصيص منحة للعائلات المعوزة وإعانة (مشروطة)، للعاطلين عن العمل تُقتطعُ من خزينة الدولة، إن أمكن، أو من خلال اقتطاع إجباري كما حصل في إطار التضامن المتعلّق بجائحة الكورونة، وهذا حفظا لكرامتهم وحفاظا على السّلم الإجتماعي أي الأمن الجماعي، أمن المواطن على نفسه وعرضه وماله…
- الضغط من أجل استرجاع الأموال الطائلة من رجال الأعمال…، واستغلالها لفائدة التنمية والعاطلين عن العمل ، وهذا مهمّ لبناء الثقة المفقودة في إطار محاربة الفساد،
- معرفة حقيقة الثروات الطبيعية التي بقيت لغزا محيّرا، حيث أن تحيين هذا المجال فيه عدّة فوائد اقتصادية واجتماعية وكذلك انتصارا لسيادة تونس.