جاد شريط سينمائي جاد. وجريئ…بقلم سالم المتهني
اختار المخرج جميل النجار اسم الطبيب التونسي جادالهنشيري عنوانا للشريط تكريما لروح الفقيد الذي كان مثالا للطبيب الشريف المحب لمهنته والقريب من أبناء الشعب والفاضح للفساد في الصحة العمومية والحالم بالعدالة الاجتماعية والمؤمن بمبادئ حقوق الإنسان وحق كل مواطن تونسي في العلاج.
والمخرج جميل النجار كان جادا إذ عالج أوضاع الصحة العمومية في بلادنا وكشف ما ينخرها من فساد يوشك أن يقوض هذا المرفق العمومي رغم ما يزخر به من كفاءات علمية نفخر بها محليا وعالميا.
يبدأ الشريط بحادث مرور وينتهي بدفن الميت في المقبرة وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة.
بعد حادث المرور يقدم المخرج مشهدا علويا بديعا لغابة كثيفة الأشجار وطريق ممتدة تخترقها، متعة للناظرين، فنحن في عمق الحياة والأفق واسع رحيب. وينتهي الشريط بمشهد المقبرة بلقطة انسحاب جوي، نبتعد فيها تدريجيا عن المقبرة لنرى ما جاورها من مساكن وأشجار وطرقات. فالموت لا يظل مسيطرا بل يخف الإحساس به تدريجيا لتستأنف الحياة من جديد.
لكن المنظور من هذه الزاوية ليس مجرد دعوة إلى التفاؤل بل دعوة إلى توسيع مجال الرؤية وعدم النظر إلى مشاكلنا في حدودها الضيقة، فالشجرة لا يجب أن تصرف أذهاننا عن رؤية الغابة.
وما بين البداية والنهاية رحلة الجحيم في المستشفى العمومي ” الرحمة” الذي كان فضاء للقسوة واللامبالاة والفوضى والإهمال والعبث بأرواح الخلق والابتزاز والرشوة والسرقة وكل ما يتداول عن أوضاع المستشفيات العمومية
أما القصة فهي حكاية عائلتين، الأولى غنية بطلها الممثل محمد مراد الذي جسد دور أخ المصاب في حادث مرور، والثانية فقيرة بطلتها الممثلة ياسمين الديماسي التي جسدت دور أخت المصاب وهو عامل في حظيرة بناء.
ولسرد وقائع سعي كل عائلة لإنقاذ مصابها كان لزاما أن يختار المخرج نسق التوازي، أي أن يسرد الأحداث بصريا بصورة متوازية وفق تراتبية زمنية، فنتابع الحكايتين بالتناوب. وبما أن المكان يجمع العائلتين ظرفيا، حدث التواصل بينهما، وهو تواصل إنساني جميل، بدأ بجرعة ماء وانتهى بمساعدة مالية حتى تتمكن العائة من استئجار بيت يؤويها إذ كانت تقريبا بلا مأوى، ولأن المساعدة مرت عن طريق الممرض الفاسد ” المنصف” فلم يصل منها إلا النزر القليل، وأجهضت فكرة استئجار بيت. وبقوة المال استطاعت العائلة الغنية زيارة الابن المصاب في غرفة الإنعاش ومكنت العائلة الفقيرة من هذا الامتياز
لم تنجح العائلة الغنية في إخراج ابنها من المستشفى العمومي ونقله إلى مصحة خاصة لخطورة وضعه الصحي، ولم يكن بالإمكان إيواؤه منذ وقوع الحادث في مصحة خاصة لأن إسعاف الحماية المدنية لا ينقل المصابين إلا إلى المستشفى العمومي، فتساوى وضعها مع وضع العائلة الفقيرة، وكان المصير واحدا، موت ابن العائلة الغنية وابن العائلة الفقيرة. فنتائج إهمال المرفق العمومي وخيمة على كل المواطنين بقطع النظر عن انتمائهم الطبقي.
ومن المفارقات التى عالجها الشريط بمهارة أن الطبيب الجراح، رئيس قسم الإنعاش الذي جسد دوره الممثل جمال ساسي كان يتهيأ لإجراء عملية جراحية دقيقة لمريض، تعد إنجازا متقدما في المجال الطبي، وحظيت بتغطية إعلامية لأهميتها ونجاحها يعد فخرا للدولة وفي المقابل يفشل الطبيب نفسه في تأمين سلامة المرضى في غرفة الإنعاش، فتعبث الفيروسات بالغرفة وتتسبب في هلاك المرضى
هكذا يصبح المجد الفردي أهم من الصحة العامة ويصبح التفاخر بأطباء أكفاء أهم من تقديم خدمات صحية لائقة لكل المواطنين.
من أجمل اللقطات في الشريط اللقطة العمودية من فوق للممثل محمد مراد وهي لقطة توحي بالعزلة والعجز والحيرة، وأراها لقطة مناسبة لكل مواطن يقف حائرا أمام معضلات حياته اليومية، سواء في مجال الصحة أو التعليم أو النقل أو في الهواء الذي يتنفسه.
شريط سينمائي رائع سردا وإخراجا وتمثيلا
تأليف: سالم المتهني ( تونس)






