حديثُ الجمعة في ضوء سورة الناس: الالتجاء والوسوسة وتزكية النفوس

حديثُ الجمعة في ضوء سورة الناس: الالتجاء والوسوسة وتزكية النفوس

28 نوفمبر، 11:00

سورة “الناس” هي آخر سور القرآن الكريم ترتيبًا، لكنها في منهج التربية القرآنية تأتي لتغلق دائرة التوجيه التربوي بأعمق درس نفسي وسلوكي. سُميت السورة بـ”الناس”، وخُتمت بالناس، وبدأت بالاستعاذة برب الناس، لتضع أمام الإنسان محورًا تربويًا عظيمًا: أن الإنسان هو مركز الصراع، ومحلّ الابتلاء، وغاية الرسالة.
أولاً: التربية بالالتجاء إلى الله
“قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَٰهِ النَّاسِ”
تبدأ السورة بأمرٍ مباشر من الله: قل أعوذ. وهو أسلوب تربية نفسي، يربط الفرد بربه في اللحظات الحرجة التي لا يراها الناس، لحظات الوسوسة والهمّ والقلق.
إن تكرار كلمة “الناس” ثلاث مرات يؤكّد أن مصدر الخوف هو من الناس، ولكن الحماية أيضًا عند رب الناس. التربية هنا لا تُعنى بالوقاية الجسدية فقط، بل بالاحتماء الكامل بالله من اضطرابات داخلية لا تُرى بالعين المجردة.
ثانيًا: خطورة الوسواس في التربية النفسية
“مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ”
الوسواس هو صوت خفي، يعيد تكرار الأفكار السلبية ويزرع الشكوك والظنون.
و”الخنّاس” هو الذي يختبئ ويتراجع، ثم يعود إذا غفلت النفس، فيعاود التأثير.
• هذا وصف دقيق للدوافع النفسية السلبية التي تصيب الإنسان:
• كالعجز، والقلق، والشك، والغيرة، والحسد، والأفكار السوداوية.
• والتربية هنا تُعلّمنا كيف نواجه هذه المشاعر: بالتعوذ، وليس بالتجاهل.
فالله يربينا في هذه السورة أن القوة ليست في كبت الوسواس، بل في الاعتراف بوجوده، ثم اللجوء إليه سبحانه لعلاجه.
ثالثًا: الوسواس مصدره داخلي: صدور الناس
“الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ”
التعبير بـ”في صدور الناس” يدل على أن الساحة الحقيقية للوسواس هي داخل الإنسان، لا خارجه.
فالمعارك النفسية لا تُخاض في الشوارع، بل في القلب والعقل والنية.
وهذا توجيه تربوي بالغ:
• احذر أن تُحمّل غيرك سبب اضطرابك.
• تربية النفس تبدأ من الداخل لا من الخارج.
• كل فكرة سوداء تتسلل إليك، تحتاج أولًا إلى إعادة بناء علاقتك برب الناس.
رابعًا: التربية على فقه الشيطان والنفس والناس
“مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ”
هذا الختام العظيم يُشير إلى أن الوسوسة لا تأتي من الجن فقط، بل من الناس أيضًا.
أي أن التأثير السلبي لا يقتصر على الخيال أو ما لا نراه، بل قد يكون من أقرب الناس إلينا:
• صديق،
• قريب،
• قدوة مزيفة،
• كتاب مشوّه،
• أو صوت داخلي مزيّف بثوب “المنطق” أو “الحرية” أو حتى “الدين”.
وهنا قمة الوعي التربوي:
أن تدرك أن ليس كل ما يقال لك صحيح، وليس كل ناصح مُلهم، ولا كل صوت داخلي نقي.
خامسًا: التربية على مراقبة النفس ومجاهدة الوسواس
منهج السورة يُعلم الإنسان أن الوسواس لا يُقتل مرة واحدة، بل يُقاوَم كل يوم.
وأن المجاهدة التربوية عملية مستمرة تحتاج:

الاستعاذة الدائمة: أن تتعوذ صباحًا ومساء، وفي كل موقف يعتريك فيه التردد أو الهمّ.

التزكية: أن تطهر نفسك من الداخل، لا بالكبت بل بالارتقاء.

الوعي: أن تدرك أن كل صراع نفسي هو جزء من بناء النفس القوية.
خاتمة:
سورة الناس ليست فقط دعاءً للاستعاذة، بل برنامجًا تربويًا يوميًا لعلاج أعمق أنواع الخوف: الخوف من الداخل.
إنها تنتهي بكلمة “الناس”، لتقول: كل نفس مسؤولة عن يقظتها النفسية، عن وعيها، عن صوتها الداخلي، عن تربيتها لنفسها في مواجهة همسات الشك.
*فليكن شعار المربي والمربّية من هذه السورة:
“ابدأ التربية من الداخل، من صدور الناس، ومن وعي النفس، مستعينًا برب الناس.”

د. ابتسام القدوة

مواضيع ذات صلة