حديث الجمعة : بِنَاءُ الوَطَنِ مَسْؤُولـِيَّةُ الـجَمِيعِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ رِفْعَةَ الأُمَمِ شَرَفًا يَنَالُهُ المُخْلِصُونَ، وَعِزَّةَ الأَوْطَانِ فَخْرًا يَحْصُدُهُ العَامِلُونَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ شَيَّدَ الأَوْطَانَ وَأَسَّسَهَا، وَأَحْسَنُ مَنْ عَمِلَ عَلَى بِنَاءِ العُقُولِ فَأَعَزَّهَا، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَهْلِ العِلْمِ وَالعَمَلِ وَالبِنَاءِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الكِرَامُ أَنَّ بِنَاءَ الوَطَنِ مِنْ أَسْمَى الغَايَاتِ وَأَشْرَفِ المُهِمَّاتِ، وَهُوَ مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَتَطَلَّبُ عَمَلًا مُتَوَاصِلًا، وَتَعَاوُنًا مُشْتَرَكًا، وَتَوْحِيدًا لِلْجُهُودِ مِنْ جَمِيعِ فِئَاتِ المُجْتَمَعِ، وَلا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ الوَطَنِ مَرْبُوطًا بِالعِلْمِ وَالعَمَلِ، وَالتَّخْطِيطِ وَالبَذْلِ، وَالاجتِهَادِ وَالإِخْلاصِ.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
إِنَّ أُولَى مَرَاحِلِ بِنَاءِ الأَوْطَانِ هِيَ بِنَاءُ الإِنْسَانِ، وَدِينُنَا الحَنِيفُ أَوْلَى ذَلِكَ أَهَمِّيَّةً عَظِيمَةً، فَأَمَرَهُ بِمُقَوِّمَاتٍ تُعْلِي قَدْرَهُ وَمَكَانَتَهُ، وَتُعِينُهُ عَلَى أَدَاءِ مَهَامِّهِ وَمَسْؤُولِيَّاتِهِ، وَحَمْلِ أَمَانَةِ عِمَارَةِ الأَرْضِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ اللهُ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭼ ( )، وَمِنْ هَذِهِ المُقَوِّمَاتِ التَّعْلِيمُ وَالتَّرْبِيَةُ وَالأَخْلاقُ وَالإِخْلاصُ فِي العَمَلِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّمَاتِ بِنَاءِ الأَوْطَانِ وَرُقِيِّ الحَضَارَاتِ، فَإِذَا تَعَلَّمَ الإِنْسَانُ وَتَرَبَّى عَلَى القِيَمِ وَالمَبَادِئِ الإِيمَانِيَّةِ، كَانَ قَادِرًا عَلَى حَمْلِ هَذِهِ المَسْؤُولِيَّةِ العَظِيمَةِ، الَّتِي تَسْنُدُهَا الأَخْلاقُ؛ وَلِذَا بُعِثَ النَّبِيُّ r بِهَا مُتَمِّمًا، وَلِخَيْرِهَا مُعَظِّمًا، يَقُولُ r: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ)).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:
لا يُمْكِنُ لأُمَّةٍ أَنْ تَنْهَضَ دُونَ عَمَلٍ دَؤُوبٍ وَجُهْدٍ مُسْتَمِرٍّ؛ فَرَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ يُبَارِكُ جُهْدَ العَامِلِينَ إِنْ زَيَّنَهُ إِخْلاصٌ وَإِتْقَانٌ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: فَلا غَرْوَ أَيُّهَا الفُطَنَاءُ أَنَّ العَمَلَ المُتَوَاصِلَ يُحَقِّقُ الإِنْتَاجَ وَالتَّقَدُّمَ، وَيُنَمِّي فُرَصَ التَّنْمِيَةِ وَالازْدِهَارِ، وَهُنَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَعِيَ مَسْؤُولِيَّتَهُ فِي بِنَاءِ مُجْتَمَعِهِ وَأُمَّتِهِ، فَيُخْلِصَ عَمَلَهُ وَيُتْقِنَ مِهْنَتَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لا مَكَانَ لِلْكَسَلِ وَالتَّوَاكُلِ فِي بِنَاءِ الأَوْطَانِ وَنَمَاءِ الأُمَمِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَتَذَكَّرُوا أَنَّهُ مَنْ بَنَى وَطَنَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، نَالَهُ حَظُّ التَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَالسَّعَادَةِ فِي الأُخْرَى:
أقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الاعتِصَامِ بِهِ قُوَّةً وَأُلْفَةً، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيـكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إِلَى وَحْدَةِ الكَلِمَةِ، rوَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ الأُمَّةَ الَّتِي يَتَفَرَّقُ أَبْنَاؤُهَا لا يُمْكِنُ أَنْ تَقِفَ صُلْبَةً أَمَامَ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي تُوَاجِهُهَا؛ وَلِذَا كَانَ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ أَمْرَ اللهِ بِالاعتِصَامِ وَالاجتِمَاعِ دَائِمًا وَأَبَدًا حَتَّى يَحْمَدَ عَاقِبَتَهُ بِالهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا آمِرًا: فَالاتِّحَادُ بَيْنَ أَبْنَاءِ الوَطَنِ يُحَقِّقُ القُوَّةَ، وَالتَّعَاوُنُ بَيْنَهُمْ يَدْفَعُ عَجَلَةَ البِنَاءِ وَالتَّطْوِيرِ وَالرُّقِيِّ، وَلَيْسَ بِغَرِيبٍ أَنْ جَعَلَ النَّبِيُّ r ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ لَبِنَاتِ بِنَاءِ الوَطَنِ وَالأُمَّةِ، فَآخَى بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَجَمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الأُلْفَةِ الإِيمَانِيَّةِ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ. ثُمَّ عَلَى الأُمَّةِ بِأَسْرِهَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّخْطِيطَ الجَيِّدَ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَالتَّطْبِيقَ المُتْقَنَ هُمَا فَرَسَا مَجْدٍ لِبِنَاءِ الأَوْطَانِ وَازْدِهَارِهَا؛ فَلا يُمْكِنُ لأَيِّ أُمَّةٍ أَنْ تَتَقَدَّمَ دُونَ أَنْ تَضَعَ رُؤْيَةً وَاضِحَةً لِمَا تُرِيدُ تَحْقِيقَهُ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ r يُخَطِّطُ لِلْمُسْتَقْبَلِ، سَوَاءٌ فِي دَعْوَتِهِ أَوْ فِي بِنَاءِ دَوْلَتِهِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ تَمْكِينَ الأَوْطَانِ فِي القَامَاتِ العَالِيَةِ لَيْسَ عَمَلًا وَقْتِيًّا، بَلْ هُوَ عَمَلِيَّةٌ مُسْتَدَامَةٌ يَحْفَظُهَا تَخْطِيطٌ بَعِيدُ المَدَى، وَيَحْمِيهَا التَّفْكِيرُ فِي الأَجْيَالِ القَادِمَةِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْتَتَّحِدِ القُلُوبُ، وَلْتَتَكَاتَفِ الأَيَادِي مَعَ بَعْضِهَا، وُصُولًا إِلى سَعَادَتِهَا وَبِنَاءِ حَضَارَتِهَا، وَلْيَكُنْ قَوْلُ رَبِّكُمْ مِشْعَلَ نُورٍ فِي حَيَاتِكُمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إمَامِ الْمُرْسَلِينَ؛ مُحَمَّدٍ الهَادِي الأَمِينِ، فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِذَلكَ حِينَ قَالَ
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلَّمتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ نَبِيِّنَا إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وعَنْ جَمْعِنَا هَذَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِينَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُومًا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَاهْدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْحَقِّ، وَاجْمعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الخَيْرِ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلامَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ كُنْ عَوْنًا للمُسْلمِينَ والمُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلِّ مكانٍ، وَكُنْ مَعَهُمْ وَثَبِّـتْهُمْ وَارْبِطْ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَصَبِّرْهُمْ، وَاخْذُلْ عَدُوَّكَ وَعَدُوَّهُمْ، وَاجْعَلِ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ.