
حفاوة هناك… وصمت هنا….اشرف المذيوب
في مشهد يشبه القصص النادرة التي تُروى للأجيال كي لا تُنسى، وقفت مارغريت، الناشطة القادمة من عمق الإنسانية، وسط جموع من السويديين في ستوكهولم، يصفّقون، يهتفون، يبتسمون بعيون دامعة، وكأنها عادت من حرب مقدسة.
لم تكن جندية، ولا ملكة، ولا فائزة في ماراثون، بل إنسانة فقط… سافرت على متن سفينة نحو غزة، لتقول: “أنتم لستم وحدكم.”
الناس هناك لم يحتفوا بها لأنها هزمت جيشًا، بل لأنها انتصرت على الصمت. احتفوا بها لأنها عبرت البحر بحثًا عن الضمير الإنساني، ووجدته في قلبها، لا في قرارات الأمم المتحدة.
مارغريت كانت مذهولة…
لم تتوقع أن يفتح لها شعبها قلبه بهذا الدفء.
لم تتخيل أن يصفقوا لها وكأنها عادت من حلم مستحيل.
ربما كانت تظن أن صوتها لن يتجاوز الموج، فإذا به يصل إلى البر ويزلزل العيون والعقول.
وفي ذات اللحظة… في الضفة الأخرى من هذا العالم العربي الكبير، انطلقت قافلة الصمود من تونس، برًّا، نحو غزة.
تحمل ما استطاعت إليه سبيلا: أدوية، غذاء، دعاء، وأحلامًا صغيرة تتدثّر بالكوفية.
من تونس، لا من أوروبا، خرج الفعل الحقيقي. لا بالصورة فقط، بل بالخطوة.
قافلة من قلوب قبل أن تكون شاحنات، تسير فوق الجراح، تُجاهد الحدود، وتكسر الحواجز الرمزية قبل الحواجز الفعلية.
لكن السؤال المؤلم:
أين كانت الكاميرات؟
أين كانت العناوين؟
أين كان الإعلام العربي الذي يشغلنا بأدق تفاصيل الغرب، وينسى أن في بلداننا من يسير إلى غزة بأقدامه، لا بتغريداته؟
بل الأسوأ من الغياب… التهكّم.
نعم، من بيننا، من “الأشقاء”، من سخر، من قلّل، من وصف القافلة بـ”الاستعراض”، أو “العبث”، وكأن المروءة أصبحت تهمة، والمقاومة عملًا غير حضاري.
أيّ مفارقةٍ هذه؟
أن تُكرّم مارغريت في ستوكهولم لأنها قالت “لا للحصار”،
بينما يُهمّش أبناء تونس لأنهم ساروا بالفعل لا بالكلام، نحو ذات الوجهة؟
هل كنا بحاجة إلى جنسية أوروبية كي نُصدّق صدق النية؟
هل بات الاعتراف بالفعل العربي مشروطًا أن يُبارَك من الغرب أولًا؟
لكن لا، تونس لا تنتظر التصفيق، ولا القافلة تطلب وسامًا.
هي تعرف أن الشرف لا يُمنح، بل يُكتسب.
وأن الطريق إلى غزة، وإن طال، يُطهّر من سار عليه.
بين مارغريت وقافلة الصمود، تتجلى المأساة العربية الكبرى:
هناك، يُكافَأ الموقف.
هنا، يُعاقَب الفعل.
لكن رغم كل شيء…
لا نكتب لنلوم، بل لنوقظ.
لا نصرخ لنشكو، بل لنبقى بشراً.
لأن فلسطين لا تريد دموعنا…
تريد فقط أن نتوقف عن الصمت.