
حكايات….ليست كالحكايات…… “مقهى المغرب”: المكتبة المفتوحة …مصطفى عطيّة
23 أكتوبر، 15:30
- كان “مقهى المغرب”، في شارع فرنسا، التي يمثل عنق شارع الحبيب بورقيبة، بمثابة مكتبة مفتوحة للأساتذة والطلبة والتلاميذ والكتاب والصحفيين وقراء الصحف، وخاصة عند الظهيرة، حيث ترى أغلب الوجوه منهمكة في المطالعة والكتابة أو المراجعة والتدقيق. يدخل أبو زيان السعدي متمايلا وقد تأبط جريدة الصباح. يجلس في ركن قصي ويشير بيده إلى النادل، وما هي إلا لحظات حتى يأتيه بكأس شاي أخضر تتراقص على سطحه بضعة ورقات صغيرة من النعناع، يترشفه بنفس عميق، وكأنه يجمع متعة التذوق بلذة الإستنشاق فيثير إنتباه الحاضرين من أحفاد “عبد السميع”، الذين تعودوا فتح آذانهم الطويلة لكل الأصوات حتى الهامسة منها. يفتح الجريدة على الصفحة الادبية التي يتصدرها مقاله، يخرج نظارتيه من جيب سترته الداخلي ويضعهما على عينيه وينطلق في قراءة ما كتب بنرجسية طاغية تفضحها ملامحه.
لم يكد ينتهي من القراءة الثالثة أو الرابعة للمقال، حتى يجد عمار الزغلامي، وقد ٱنتصب أمامه بٱبتسامته الدائمة، التي لا تفارق محياه في كل الأحوال، حتى تلك التي لا تتطلب الإبتسام مطلقا، ويقول لأبي زيان:”قرأت مقالك هذا الصباح”، فيجيبه، وقد ٱنفرجت أساريره : “قرأته ؟! حسنا، كأس الشاي سيكون على حسابي”، يطلق عمار الزغلامي قهقهة مدوية ويجلس قبالته، ثم يستدرك :”ولكني أخالفك الرأي في بعض ما جاء في مقالك”. ينظر إليه أبو زيان شزرا، يطوي الجريدة وينزع نظارتيه ثم يقول له بنبرة حادة ومتعالية :”تخالفني الرأي؟ ومتى كان لك رأي في الأدب حتى تخالفني رأيي؟” ويضيف مسرعا، وكأنه يقطع الطريق على جواب محتمل من محدثه: “أنت مجرد أستاذ وصاحب معهد حر، ومتطفل على السياسة بوجودك في حزب قومي مهمش”.
كان الميداني بن صالح قد وصل للتو وقد ٱستمع لبعض ما قال أبو زيان، فغاضه الأمر، وٱعتبر ما صدر عنه تجريحا غير مبرر في زميله ورفيقه في التيار القومي. أطلق زفرة ٱحتجاج وتوجه لأبي زيان لائما :”مشكلتك الأولى هي انك لا تقبل النقد، والثانية هي انك فاقد لروح التضامن مع رفاقك القوميين، وتتعمد دوما مهاجمتهم”، ثم يسوي توازن أحد الكراسي العرجاء ويلقي بجسده النحيف عليه وكأنه قد تخلص من شيء كان يدفنه في قلبه. يطوح أبو زيان براسه مستهزئا ويقول: “اما أنت يا ميداني فمشكلتك هي انك تخلط بين الأدب والإيديولوجيا”. يخرج الميداني سيجارة من علبة الدخان التي وضعها عمار الزغلامي على الطاولة ويطلب من أبي زيان عود ثقاب فيناوله بقايا السيجارة التي بين شفتيه. يجد الميداني صعوبة بالغة في مسكها ثم يقربها من سجارته ويجذب نفسا طويلا، يمرر أنامله على ذقنه ذي اللحية الصغيرة البيضاء ثم يفتح حقيبته ويخرج منها عددا من مجلة “المستقبل” اللبنانية، الصادرة في باريس، يقلب صفحاتها بسرعة وكانه يبحث عن ضالة رأى من المفيد العثور عليها في تلك اللحظة. يتوقف فجأة عند صفحة تحمل عنوان: “من حكايات هذا الزمان”، ممهورة بٱسم الأديب عزالدين المدني وصورته. يمدها لأبي زيان فيصدها بيده ويشيح بوجهه عنها. يسأله عمار الزغلامي مستفزا : “ويحك، انه كاتب تونسي مميز، تحتفي به وبكتاباته صحف الشرق والغرب”. يطأطأ الميداني بن صالح رأسه موافقا وداعما، وكأنه يستلذ إستفزاز أبي زيان.
كنت قد ٱلتحقت بالجمع، جلست وسلمت فناولني الميداني المجلة، وهو يقول: اعرف انك تعشق القراءة لأهم كتاب هذه المجلة: نبيل خوري ورغيد الشماع وزينات نصار وسمير عطاء الله ورياض الريس وعز الدين المدني”، وقد نطق إسم هذا الأخير بصوت أعلى.
تنحنح أبو زيان، إستوى في جلسته، ثم جذب نفسا طويلا من سجارته وقال بهدوء مصطنع :”ثلاثة لا أتحدث عنهم، ولا أستسيغ حديث الآخرين عنهم: الإخواني الجزائري عباسي مدني، وعز الدين المدني، والمجتمع المدني، ويبدو اني سأضيف إليهم إسما رابعا مشتقا من هذه الأسماء”. صاح عمار الزغلامي ضاحكا : “الميداني”! فأجابه هذا الأخير :”وهل تعتقد ان أبا زيان يمل من الحديث عن الميداني والإستماع لأحاديث الآخرين عني؟”. كان وقت الحصة المسائية في المدارس والمعاهد قد ٱقترب ومعه بدأ أغلب الزبائن من معلمين وأساتذة وطلبة في مغادرة المكان.