
“حين تصبح الأمية خيارًا… وصوت الضجيج أعلى من العقل”….اشرف المذيوب
في زمن تتسارع فيه الأمم نحو اقتصاد المعرفة، نكتشف فجأة أن نسبة الأمية في تونس لا تزال في حدود 17.3%، حسب آخر إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء. رقم صادم، لا لأنه يعبّر عن ضعف في المنظومة التعليمية فحسب، بل لأنه يكشف عن خلل أعمق: خلل في الوعي الجمعي، وفي دور الإعلام، وفي تسويق القيم المجتمعية الحقيقية.
من زاويتي الشخصية، لا أرى الأمية نتيجة للفقر أو نقص المدارس أو غياب المدرّسين فقط، بل أراها انعكاسًا مباشرًا لتقصير إعلامي وثقافي ممنهج، قاد الأجيال الناشئة نحو مسارات مضلّلة، جعلتهم يرون في “الشهرة السهلة” بديلًا عن التعليم، وفي “الضجيج” بديلًا عن الفكر.
لقد أصبح من الشائع أن يرى الطفل أو المراهق مغني راب، يعتلي المسارح، يغني كلمات نصفها غير مفهوم، والنصف الآخر مملوء بالبذاءة، ومع ذلك يُحتفى به في السهرات، يُستضاف في البرامج، يُغدق عليه بالمال والاهتمام. في المقابل، يجد نفس الطفل أستاذه يركب وسيلة نقل عمومية، يعمل في ظروف شاقة، ويُهمَّش إعلاميًا وثقافيًا. هنا تتكوّن الفكرة الخطيرة: لماذا أتعلم إذا كان من لا يملك شهادة يعيش في رفاه ومن يملك العلم يعاني؟
المشكلة ليست في الموسيقى، فالفن رافعة حضارية حين يكون هادفًا، ولكن في تسويق الرداءة على أنها نجاح، وفي تقديم التفاهة على أنها “حلم قابل للتحقيق”. حينها، يصبح التعليم بنظر البعض طريقًا طويلًا بلا نهاية، بينما تصبح الشهرة السريعة هدفًا سهل المنال حتى دون مجهود.
الإعلام، الذي من المفترض أن يكون منارة ومرشدًا، تخلى عن أدواره التنويرية، وساهم في خلق أجيال ترى في التقليد طريقًا، وفي التمرد الأجوف بطولة. غابت النماذج الإيجابية، وأُطفئت صورة العالم والمفكر والمعلّم، لتحلّ محلها وجوه تكتسب قيمتها من عدد المتابعين، لا من قيمة ما تقول.
إننا أمام خطر أمية من نوع جديد، لا تقاس بعدد من لا يعرف القراءة، بل بعدد من اختار الجهل كخيار اجتماعي، وعدّ التعليم مجرّد عبء لا طائل منه. أمية تلبس ثوب الحداثة، وتُروَّج عبر المنصات، وتُطبع في العقول باسم الحرية.
لذلك، أرى أن النهوض بالوضع لا يقتصر على بناء المدارس وتوفير المعلمين، بل يبدأ بإعادة الاعتبار للكلمة، للعلم، وللعقل. نحتاج إلى إعلام يُلهم لا يُضلّل، يُوجّه لا يُسطّح، ويزرع في الأطفال حبّ المعرفة بدل نشوة الشهرة المؤقتة. نحتاج إلى مجتمع يعيد ترتيب سلّمه القيمي، ليضع من يفكر فوق من يصرخ، ومن يعلّم فوق من يُلهي.
إن الأمية ليست قدرًا… لكنها حتمية إذا استمررنا نحتفي بالقشور ونتجاهل الجذور.