“حين تُصبح الطوابير مرآتنا: من فلسطين إلى السندويتش  “…اشرف المذيوب

“حين تُصبح الطوابير مرآتنا: من فلسطين إلى السندويتش “…اشرف المذيوب

2 جوان، 21:15

في مدينة صفاقس، التي تعبق بالكدّ والعمل، والتي كثيرًا ما وُصفت بأنها عاصمة الاقتصاد، شهدنا مشهدًا كثيفًا من الحشود أمام مطعم جديد. مئات توافدوا، هاتفين، منتظرين، مزدحمين في طوابير طويلة تحت شمس أواخر مايو… كل ذلك من أجل وجبة سريعة.
في البدء، خُيّل لي أنّ هذا الجمع ربما نزل نصرةً لفلسطين، أو لعله جمهور مهرجان فكري، أو رواد معرض كتاب طال انتظاره… لكن الحقيقة كانت أبسط – وربما أعقد – من ذلك: افتتاح فرع لمطعم “اكلة خفيفة “.
المشهد لا يُلام عليه صاحب المشروع، فهو شاب تونسي كافح حتى وصل، وهذا يُحترم ويُشجّع. بل يُرفع له القبعة. لكن السؤال المحوري الذي يقفز إلى الذهن هو: لماذا لا تتحرك هذه الحشود لقضية إنسانية كبرى؟ لماذا لا تمتد هذه الطوابير إلى أبواب المكتبات؟ لماذا لا نُشاهد نفس الحماسة عند عرض فيلم فلسطيني، أو تنظيم ندوة فكرية، أو افتتاح معرض فني هادف؟
الإجابة ليست اتهامًا، بل تحليلًا.
صفاقس، رغم عظمتها، تعاني من جفاف ثقافي وترفيهي. لا مسارح فاعلة، لا دور سينما حديثة، لا حدائق عامة جديرة، لا مساحات آمنة للعائلات، لا متنفس حضري يليق بمدينتها الصلبة. يعيش المواطن بين العمل والبيت، بين الازدحام والواجبات، في دوران يومي يجعل من أي حدث مختلف نافذة على التنفس، مهما كان بسيطًا.
من هنا، نفهم “الظاهرة”. الناس لا تتلهف على السندويتش بقدر ما تتلهف على الإحساس بالحياة، على الخروج من الرتابة، على الشعور بالانتماء إلى لحظة جماعية، ولو كانت تجارية.
لكن هذا أيضًا انعكاس مرير لأزمة أعمق: نحن نستهلك أكثر مما نفكر. نندفع أكثر مما نختار. نصطف أكثر مما نثور. نحبّ السهل والمُبهج، ونهرب من كل ما يُشعرنا بثقل الواقع.
القضية الفلسطينية؟ تُشاهد على شاشة. معرض الكتاب؟ “ما عنديش وقت”. جلسة فكرية؟ “ما تجيبش الخبز”. هذا ما وصلنا إليه في مدينة عظيمة مثل صفاقس. لكن لا يجب أن نيأس. لا يجب أن نُدين الناس فقط، بل يجب أن نُضيء الطريق أمامهم.
الحل يبدأ من الثقافة، من الإعلام، من التعليم، من المبادرات الفردية. نحتاج لإعادة هندسة الوعي، لا بقوة القوانين، بل بجمال الأفكار. نحتاج أن نخلق مشاهد جديدة: حشود تنتظر توقيع كاتب، لا فقط ساندويتش؛ صفوف أمام ندوة، لا فقط مغنٍ صاخب. أن نصنع يومًا تصبح فيه صورة التجمع هي مرآة وعينا، لا دليل انكسارنا.
فالمدينة التي تنجب رواد الأعمال، قادرة أيضًا على إنجاب الثوار، المفكرين، الشعراء، والمدافعين عن القضايا الإنسانية.
فقط، أعيدوا للناس مكانًا يليق بكرامتهم، ودعوا ثقافتهم تزدهر كما تزدهر شهيّتهم.

مواضيع ذات صلة