خارطة طريق لتجاوز العقبات الدستورية والسياسية التونسية ؟..ماهر عبد مولاه
رغم دقّة الوضع وحساسية المرحلة مازال هناك مساحة لإيجاد حلول استنادا لبعض التجارب المقارنة وخصوصية التجربة التونسية قبل وبعد الثورة.
هذه الحلول تتمحور أساسا حول عنصرين أساسيين: أوّلا، تغيير النظام السياسي من خلال تعديل الدستور، وثانيا، تنقيح قانون الانتخاب وخاصة طريقة الاقتراع.
العنصر الأوّل: تغيير النظام السياسي
يهدف تغيير النظام السياسي إلى خلق انسجام على مستوى السلطة التنفيذية لحسن تسيير دواليب الدولة والمرافق العمومية. هذا التّصوّر للنظام السياسي الذي يمرّ عبر تكريس نظام برلماني صرف (شبيه بالنظام البريطاني)، يهدف إلى بلورة نوع من التوازن، المفقود، بين السّلط والحدّ من المناكفات السياسية التي لاحظناها من خلال التّداخل (المقصود والعفوي)، بين صلاحيات رأسي السلطة التنفيذية (أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة).
هذا التّداخل والتشابك في الصلاحيات طال كذلك السلطة التشريعية نتيجة لتوزيع غير معقلن للاختصاصات ونتيجة كذلك لنظام سياسي هجين راوح بين نظام رئاسي ونظام برلماني أدّى إلى تعطيل السير العادي لأهم أجهزة الدولة، وبات إذ من الضروري تدارك هذا النظام “المشوّه”.
وهنا يجب استبعاد تماما العودة إلى النظام الرئاسي نظرا للانحرافات التي عشناها في الماضي والتي أفضت إلى نظام مركزي، متكلس…، يخضع إلى الإرادة المطلقة للرئيس والذي صُنّف ضمن الأنظمة الرئاسوية، (مع بورقيبة وخاصة مع بن علي). والملفت أنّ البعض يرى في العودة إلى النظام الرئاسي طوق النجاة. الأرجح أنّ هذا الموقف هو بمثابة ردّة فعل نتيجة خاصة لتردّي الأوضاع الاقتصادية الحاليّة. كما أنّ استبعاد النظام الرئاسي في تونس أراه منطقي نظرا لبروز الشّخصنة وعدم ترسيخ قيم الديمقراطية على مستوى الوعي الفردي والجماعي وكذلك السلوك السياسي للنخبة التي تداولت على الحكم منذ 2011. وهذا يُترجم صعوبة استبطان ثقافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، رغم مرور 10 سنوات على التدرّب في هذا المجال من خلال ما اعتُبر الانتقال الديمقراطي.
العنصر الثاني: تنقيح طريقة الاقتراع
يجب هنا عقلنة النظام الانتخابي المُعتمد من أجل بناء نظام سياسي متوازن يحقق الاستقرار من خلال وضع حدّ للتمثيلية النسبية التي أنتجت تواجد أحزاب صغيرة على مستوى البرلمان (غالبا ما تكون فاقدة للشرعية وللمشروعية…)، ومستقلين وكُتل متناثرة ومشتته بدون ثوابت (لا هوية ولا برامج ولا شيء في بعض الأحيان غير التهريج وهي نتيجة أكبر البقايا…)، أربكت المشهد السياسي وساهمت في ما يسمى “بالسياحة الحزبية” “وترذيل” العمل النيابي والتشريعي. لذا، وقع التركيز على نظام اقتراع مختلط يمزج بين نظام الأغلبية والتمثيل النسبي، من خصائصه :
- يلزم الحزب الفائز، مهما كانت نسبة الأصوات المتحصل عليها، بأن يحكم. وهذا من شأنه التخلّص نهائيا من التوافقات مهما كان نوعها ومهما كانت طبيعتها،
- دفع الأحزاب إلى تحمّل مسؤولياتها ومحاسبتها…
- ضمان تواجد المعارضة في البرلمان استنادا إلى نسبة يقرّها قانون الانتخاب،
- المساهمة في بناء الثقة المنعدمة بين المواطن (الناخب)، والسّياسييّن.
هذه المقاربات من شأنها المساهمة في وضع حدّ لسياسة “التعويم” والتسويف والوعود الزائفة التي ساهمت في الاحتقان الاجتماعي…والتي تمكّن بعض الأطراف من الركوب على الأحداث والاستثمار في الأزمات من خلال إطلاق العنان للشعبوية والدعوة إلى الفوضى وتعفين الأوضاع… هذه العناصر مجتمعة بإمكانها أن تكون خارطة طريق، قادرة على المدى المتوسط والبعيد إنتاج أحزاب كبرى ضامنة للاستقرار السياسي، من خلال التداول السلمي على السلطة واحترام إرادة الشعب، اللذان يعتبران أسُس مدنية الدولة.
اعتقد أن هذه شروط جوهرية من شأنها تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي والفعلي والدّفع بالتنمية المتعثرة. يجب التذكير كذلك في هذا الإطار بأنّ الاكتفاء بتعديل قانون الانتخاب (كما يراه وروّج له البعض)، ووضع عتبة 5 بالمائة (كما وقع تكريسها ضمن مشروع القانون الذي لم يقع ختمه…)، دون إعادة هندسة النظام السياسي، لا يمكن أن يفي بالحاجة رغم أهمّيته.
هذه الإصلاحات ضرورية وممكنة إذا توفّرت الإرادة السياسية حيث أن تعديل الدستور مرهون بوجود المحكمة الدستورية. ولهذا فإن كل من مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء ورئيس الجمهورية المعنيون بتعيين أعضاء المحكمة (كل مؤسسة مكلفة بتعيين 4 أعضاء)، مطالبون بالتعجيل لاستكمال هذا المسار المُعقد ووضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار وعدم تسييس المحكمة الدستورية من خلال اختيار الكفاءات ولا شيء غير الكفاءات، بعيدا عن الولاءات والمحاصصة والإيديولوجية… ، حتى تكون هذا المؤسسة الدستورية حكما محايدا، حامية للدستور وعلويته ولدولة القانون وللحريات… (لنا وللأجيال القادمة)، كما تصوّرها الفقيه النمساوي هانز كالسن (Hans Kelsen)، أحد أعلام المنظرين للقانون الدستوري.
لكنْ، لنكُنْ واقعيّين نوعا ما :
هل يمكن أن تكون المحكمة الدستورية، على ضوء القانون المنظم لها، فعلا مستقلة ومحايدة وبعيدة عن المناكفات السياسية ؟
يبدوا أنّ الأمر صعبا، حيث أن الأعضاء الذين سيتمّ انتخابهم من مجلس نواب الشعب، هم نتيجة ترشيحات الكتل. أي لا يمكن أن يمرّ أي مرشح على الجلسة العامة (أي للتصويت)، دون أن يقع تزكيته من الكتل السياسية، وبالتالي فإن مسألة الحياد ليست مضمونة، وربما مستبعدة تماما ؟
وهذا المعطى يمكن أن ينطبق على المجلس الأعلى للقضاء، حيث أن هذه المؤسسة تشقّها صراعات سياسية وإيديولوجية…، وبالتالي من المحتمل أن يؤثر ذلك على انتخاب الأربعة أعضاء الآخرين ؟
وبالنسبة للأربعة الأعضاء الذين سيعيّنهم رئيس الجمهورية، هل أنّ الرئيس سيبحث بالفعل على أربعة محايدين من ذوي الكفاءة…، حتى وإن كانوا لا يتّفقون معه أو يعارضوه في بعض مواقفه ؟ أم سيبحث على من يدعمه في مشروعه السياسي ؟
وأخيرا وليس آخرا، وهذا في اعتقادي الأهم، هل يوجد بالفعل أساتذة في القانون الدستوري أو في اختصاصات أخرى مستقلّين ومحايدين؟؟؟





