
“ردّ المقاومة.. سيادة القرار وكرامة الدم”….محمد خلف الله
في زمنٍ تزدحم فيه الأصوات وتتنازع فيه القراءات، يخرج بيان حركة المقاومة الإسلامية “حماس” كردٍّ سياسيٍ محكمٍ على مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في لحظةٍ تتقاطع فيها النيران بالدم، والدبلوماسية بالدموع، والثوابت بالضغوط.
لكن قراءة هذا البيان ليست قراءةً عابرةً في نصٍّ سياسي، بل في مشهدٍ تاريخي تتقاطع عنده المقاومة، الدم، والسيادة على القرار.
من يقرأ البيان بعين السياسي المحنّك، يدرك منذ السطر الأول أنه ليس مجرّد ردّ على مبادرة أميركية، بل هو إدارة متقنة لمعركة متعددة الجبهات: معركة الميدان، ومعركة الوعي، ومعركة الكرامة السياسية.
فـ”حماس” لم تُسقَ إلى الردّ انفعالًا ولا إلى القبول انكسارًا، بل قدّمت نموذجًا متوازنًا يجمع بين صلابة المقاومة وحنكة السياسة.
أقرّت بالجهود العربية والإسلامية والدولية، حتى تلك الصادرة عن واشنطن، دون أن تنحني لها. ثم أعادت ترتيب الأولويات: وقف العدوان أولًا، رفض الاحتلال والتهجير ثانيًا، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ثالثًا.
هذا ليس بيانًا سياسيًا تقليديًا، بل هو بيان قيادة تعرف أنّ الميدان لا يُدار بالشعارات، وأنّ السياسة ليست ترفًا بل جبهة أخرى من جبهات المقاومة.
لقد أرادت واشنطن أن تفرض منطق الوصاية وأن تلبس الحرب ثوب “صفقة”، فجاء ردّ المقاومة كوثيقة سيادة وطنية ترفض الانصياع وتثبت أنّ القرار في غزة لا يُصنع في البيت الأبيض بل في الخنادق وبين الأنقاض، حيث يُكتب التاريخ الحقيقي لفلسطين.
فـ”حماس” لم تنكر حاجة الشعب إلى الهدوء، لكنها ربطت أي هدنة بوقف العدوان وانسحاب الاحتلال الكامل، لا بمجرد وعود أو مؤتمرات.
ولم ترفض فكرة الإدارة المدنية للقطاع، لكنها اشترطت أن تكون “هيئة مستقلة متوافقًا عليها وطنيًا”، لا وصية دولية أو وصاية من طرف دون آخر.
هي إذًا موافقة مشروطة بسيادة القرار الوطني، لا تنازلًا ولا رضوخًا.
هنا تتجلّى قوة الردّ: لقد قلبت الحركة المعادلة، فحيث أراد الأميركي أن يظهر كمن يمنّ بوقف الحرب، أظهرت المقاومة أنّها صاحبة اليد العليا في تحديد شروط السلم كما كانت صاحبة القرار في الميدان زمن الحرب.
إنه ردّ بحكمة القائد الذي يعرف متى يضغط على الزناد ومتى يمدّ اليد دون أن تنكسر قبضته.
ومع ذلك، دعونا نقرّ جميعًا بحقيقةٍ لا يختلف حولها منصفان:
مهما كتب المحللون، وتفنّن المفسّرون، وادّعى الخبراء علم الميدان والسياسة، فلن نرتقي نحن جميعًا إلى مرتبة من يقاتلون ، ويحملون دمهم على أكفّهم دفاعًا عن حقّنا جميعًا في الكرامة والوجود.
لا أحد يملك أن يقيم أداء المقاومة إلا المقاومة نفسها، فهي من تقرأ الأرض بالدم، وتفهم السياسة بالبوصلة التي لا تنحرف عن فلسطين.
هم هناك، يصنعون التاريخ بأجسادهم، ونحن هنا نحاول بالكلمات أن نلحق بمعناه.
لذلك نقولها بوضوح لا لبس فيه:
نحن مع المقاومة في الحرب، كما نحن معها في الهدنة.
معها في الرصاص، كما معها في المفاوضة.
هي تعرف توقيت النار، كما تعرف معنى الصبر، ونحن ما لنا إلا أن نكون خلفها، مؤمنين بأن من قدّم أبناءه شهداء لا يمكن أن يفرّط في أرضٍ أو مبدأ.
أما أولئك الذين يكثرون التنظير ويقلّون العطاء، فليقدّم الواحد منهم واحدًا من مليار من تضحيات المجاهدين قبل أن يفتح فمه ليحاكم خيارًا أو يزن قرارًا.
الميدان لا يعرف الكراسي الوثيرة ولا التحليلات الباردة، بل يعرف من صمد ومن نزف ومن دفن رفاقه ثم واصل الطريق.
ختامًا، إنّ بيان المقاومة ليس فقط ردًّا سياسيًا على مبادرة ترامب، بل هو وثيقة سيادة وكرامة، وخارطة طريق لمن لا يزال يؤمن أنّ فلسطين لا تُدار بالصفقات، بل تُحرّر بالصمود، بالوعي، وبالإيمان بأنّ الحقّ لا يموت ما دام خلفه من يرفض الركوع.
وهكذا تثبت المقاومة مرة أخرى أنها حين تتحدث، فإنها لا تكتب بيانًا، بل ترسم خطّ التاريخ القادم.
محمد خلف الله