“عرش التفاهة: كيف نصنع النجوم من اللاشيء؟”…اشرف المذيوب

“عرش التفاهة: كيف نصنع النجوم من اللاشيء؟”…اشرف المذيوب

30 مارس، 21:15

إن ما نشهده اليوم من صعود التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي ليس مجرد صدفة أو ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس لتحولات عميقة في القيم المجتمعية وآليات التفاعل البشري في العصر الرقمي. لقد أصبح الاستهزاء نفسه أداةً لصناعة الشهرة، وأصبحت السخرية وقودًا يغذي انتشار المحتوى التافه، بدلًا من أن تكون وسيلةً لكشف زيفه أو الحد من تأثيره.
حين يشاهد الناس مقطعًا سخيفًا، فإن أول ردة فعل لديهم تكون الضحك أو الاستهجان، ثم سرعان ما يتحول ذلك إلى مشاركة وتعليق، فيتدفق المحتوى عبر الخوارزميات ويصل إلى أعداد أكبر. وهنا تكمن المفارقة المريرة: حتى من يرفض هذا المحتوى يساهم في انتشاره دون أن يدري، فيصبح جزءًا من المشكلة بدلًا من أن يكون جزءًا من الحل.
لم تعد الشهرة اليوم مرتبطة بالقيمة أو بالإنجاز، بل أصبحت تُمنح لمن يثير الجدل أكثر، حتى لو كان ذلك بالسخافة أو الانحطاط الأخلاقي أو الاستخفاف بالعقول. ومع مرور الوقت، نجد أن الجماهير التي كانت تستهزئ بهذا “المحتوى التافه” تتحول شيئًا فشيئًا إلى متابعين أوفياء له، بل وتنتظر جديده بشغف. وهنا نصل إلى جوهر المشكلة: التفاهة لم تعد مجرد عرض جانبي في المشهد الثقافي، بل أصبحت هي المشهد بأكمله.
والأخطر من ذلك هو أن هذه الدوامة لا تقتصر على الأفراد فحسب، بل أصبحت تؤثر حتى على صُنّاع المحتوى الهادف، إذ يجدون أنفسهم مضطرين لمجاراة هذا التيار للحصول على بعض الانتباه، وإلا فسيُدفنون تحت ركام التجاهل الرقمي. وهكذا، يتحول الفضاء الإلكتروني إلى سوق يتاجر بالسطحية ويُقصي العقول، ليصبح معيار النجاح فيه ليس الإبداع أو الفكر، بل القدرة على “لفت الانتباه” بأي وسيلة ممكنة.
إن الخروج من هذا الواقع المرير يتطلب وعيًا جماعيًا حقيقيًا. لا يكفي أن ننتقد المحتوى التافه، بل يجب أن نتوقف عن التفاعل معه تمامًا. فكما أن النار لا تشتعل دون وقود، فإن الشهرة لا تُبنى دون انتباه. وإذا كان هناك درس واحد يجب أن نستوعبه، فهو أن اللامبالاة بالتفاهة هي السلاح الأقوى لمحاربتها.

مواضيع ذات صلة