علم الأديان وعلم اللاهوت …الاتصال والانفصال…(الجزء1) .عزالدين  عناية

علم الأديان وعلم اللاهوت …الاتصال والانفصال…(الجزء1) .عزالدين عناية

9 جانفي، 17:00

ضمن ما سأتطرّق إليه بشأنبيان حدود الاتصال والانفصال بين المنهج العلمي والمنهج اللاهوتي في معالجة الظاهرة الدينية، أستهلّ حديثي بكلمة قالهاالفرنسي ميشال مسلان في كتاب “علم الأديان”: “أن نتابع الحفر في خندقنا مع إلقاءنظرة بعيدا صوب الحقول الأخرى”. بهذا الشكل يتجنّب دارس الظاهرة الدينية الانحصارداخلرؤية ضيّقة، ويثري أدواته برؤى خارجية. ومن جانب آخر تدفعني مقولة البولنديزغمونت باومان بشأن سمة “السيولة” التي تطبَعُ عالمنا اليوم: “المجتمع السائل”، و”الحداثة السائلة”،إلى إدراج الدين ضمن هذا الواقع السائل، الذي بات عصيّا على الفهم ضمن إطار محدد. فـ”الواقعة الدينية”، و”التجربة الدينية”،و”الكائن المتدين”،و”المقدّس” عامة، هي مظاهرنابعة من معين واحد، وهيفي أمسّ الحاجة إلى تنويع المناهج وتوحيدها،في الآن نفسه، لسبرغور تلك التشظيات.
الظاهرة الدينية
سوف تتمحور هذه الدراسة حول ثلاثة عناصر أساسية: الظاهرة الدينية، المنهج اللاهوتي/المنهج العلمي، لأخلص بالحديث إلى آفاق التكامل بين المنهجين. في البدء يقتضي الحديث تعريفا لمفهوم الواقعة الدينية أو الحدث الديني الذي نحن بصدد معالجته، وهو ما نُطلق عليه تجوزا الظاهرة الدينية أو التجربة الدينة. ذلك أن الظاهرة/التجربة هي اختزالٌلبُعد أنثروبولوجي لازمالكائن المتدين،وهي تجلٌّ ديني، نحاول حصرهووضعه بين قوسين.إذ صحيح أن الظاهرة الدينية هي ما يظْهَر من فعل مشوب بمسحة قداسة؛ولكن كلمة “الظاهرة” هل تغطّي ما يعتمل في ذات الفرد وباطنهأيضا؟ لنأخذ على سبيل المثال حالة الوجد الصوفي، أو ما شابه ذلك من مظاهر الورع والتقى والربّانية، والتطويب والتقديس في السياق المسيحي حصرا، فهي مظاهر شفّافة غير قابلة للرصد العيني أحيانا. وذلك ما أملى إضافة توضيحيةلكلمة الظاهرة، كأن نقول: “الظاهرة النفسية”، “الظاهرة الاجتماعية”، “الظاهرة التاريخية”، “الظاهرة الدينية”، في مسعى للإحاطة بما تتعذّر الإحاطة به بالركون إلى كلمة “الظاهرة”، كونهافي الأصل متابعة لما يظهر لا غير.
ضمن هذا السياقيجرّنا تناول الظاهرة الدينية إلى إدراج الموضوع ضمن مبحثعام ألا وهو “الظواهرية الدينية”، بوصفه الإطار الأشملوالأعمّ لاختبار الظواهر. إذ يعود مصطلح “ظواهرية الدين” إلى الهولندي بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي(P.D. Chantepie de la Saussaye) مدرّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه: “مدخل إلى تاريخ الأديان” (1887). فأمام إدراكه أن مقصد الظواهرية ليس قاصرا على متابعة العيني والمرئي، أي ما ظهر للعلن، جرى تفريع الانشغال إلى فرعين أساسيين: “الظواهرية الدينية الوصفية” و”الظواهرية الدينية الفهميّة”، وهذه الأخيرة هي ما حاول فان دير لاو تأسيسها، حيث عرّف الظاهرة بقوله “هي في الآن شيء على صلة بموضوع وموضوع على صلة بشيء” . معتبرا أن المكوث عند التقريرالوصفي دون الولوج إلى غور الظواهر يُبقي الدارس عند مجرّدوصف الظاهرة الدينية .وبالتالي السؤال العميق المطروح أمام الظواهرية الدينية هو سؤال الفحوى والدلالة بشأن معنى الظاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصد الحالة وتوصيفها، ما افتقرالحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللسان العربي كلمة الظاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقية (phainomenon)، التي تعني حرفيا الشيء الظاهر، الظاهرة، والمصطلح كما هو مخاتل في اللغات الغربية، هو بالمثل في العربية.
وحين نتطرق إلى الظاهرة الدينية كمَلْمح من ملامح تجربة التديّن، نحن لا نتحدّثعن “المقدَّس”كجوهر مفارق، ندرك طيفهالجليل والساحر والمهيب ولا نعاين أثره، كما بيّن رودولف أوتّو في كتابه “المقدّس” ؛ ولكننعمل جاهدين على حصر الرصد والبحث في عنصر محدّد. بيْدَ أنّ المسألة التي أعالجها لا تتعلّق بمنهج الظواهرية ومدى وعودهوإمكانياته، وإنمايأتي توظيف الأمر لغرض التوضيحِ في سياق حديثنا عن سُبل فهم “الحدث الديني”، “التجلي الديني”، “الظاهر الديني”، “الواقع الديني”.فـ”عالِم الدين” بمفهومه الحديث يعيد الظاهرة الدينية إلى جذور دُنْيوية،وبإيجاز يسعى إلى تناولالظاهرة الدينية بمثابة واقعة منزوعة القداسة؛ في حين عالم الدين بمفهومه الكلاسيكيفهو يعيد الظاهرة الدينية، في جانبها “الإيجابي”، إلى قوة عليا، وما خالف منها النظرة الإيمانية إلى النفس الأمّارة بالسوء وإلى الزيغ والهوى وما شابه ذلك، كما هو الحال في المنظور الإيماني الإسلامي.
وفي المناهج الحديثة لدراسة الدين يتوزع التطور في دراسة الظاهرة الدينية على ثلاثة مستويات: المستوى الأول، وهو يتشكّل من البحث التاريخي الفيلولوجي الهادف إلى البحث في كلّ تقليد ديني على حدة على أساس تحليل الوثائق المكتوبة وغير المكتوبة، وهو عادة ما تولّى شأنه تاريخ الأديان؛ المستوى الثاني، وينبني بالأساس على منهج المقارَنة بقصد بلوغ التماثل في النظر البشري، وإن بقي المنهج المقارِن على صلة بالمعطى التاريخي فقد انفتح على تساؤلات تتجاوز حقله، ممهِّدا الطريق إلى تدخل مختلف العلوم الدينية، التي تتشكل من مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا وغيرها) وهو المستوى الثالث، وفق الإيطالي جوفاني فيلورامو في كتابه “ما معنى الدين؟” .
حول تمايز المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي
تبعا للانشغالات الحديثة بالدين يتلخّص الدور الإبستيمولوجي للعلوم الدينية في فهم الدين وشرحه، أو بما أوضحه ميشال مسلان، في الاقتصار على متابعة العلاقة الأفقية في التعامل مع الدين وإسقاط العلاقة العمودية بقوله: “بإيجاز اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة دائما بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق، وبموجب الخاصية التي تميزه فهو مانعٌ وغالبا ما يكون أحاديا. أما علم الأديان فلا يستطيع أن يكون محلّ إجلال أو إدانة، بسبب الموضوعية العلمية المتطوّرة التي تصبغه. إذن مسعى الدراسة العلمية ومسعى الدراسة اللاّهوتية يختلفانمن حيث السياق، فحقل دراسة علم الأديان يتميز كلّيا عن المقاربات اللاّهوتية من الناحية النوعية والكمية، وهذا الشكل الأخير يجيب عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر” . ولا ينأى هنري شارب بيوخ وبول فينوعمّا حدّده مسلان لمهام ذلك العلم، أي علم الأديان، “فهو محاولة ترنو لتجاوز المستوى الاختباري، بغرضالكشف عن العام والمشترك، بغرض الإحاطة بالكوني، الكامن في المحلّي أو المنعزل، واكتشاف القوانين المتوارية خلف الوقائع، وإماطة اللثام عن الجوهري المتخفّي بالعرضي، أو بعبارة أخرى التنبه للتطور الداخلي والتجاوز للمتغير والمتبدل، أي الوعي بطبيعة الدين وجوهره عوضا عن مظاهره الخارجية” . وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تحضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية .لا أتصور أن من يتطلع للإلمام بأصول الدين، ملزمٌبمراعاة هذه الحدود الصارمة في ذهنه في التعاطي مع الوقائع الدينية، وبالمثل لا أتصور أن ميشال مسلانوآخرين فاتهمْعمق المقاربة اللاهوتية للدين أيضا، وما يمكن أن تُسهم به في فهمِ الكائن المتدين،والحالأن المحاولة تتمثّلفي إرساءنوعمن الانتظام في حقل لا يزال متداخلا،وهو في أمسّ الحاجةإلى صرامة منهجية حتى يصلب عوده.
ولكن لتتّضح معالم المنهجين اللاهوتيالعلمي، أعود إلى التطرقإلى خاصيات علم اللاهوت،أو لنقل “العلوم الشرعية” بصياغة إسلامية.فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تعبّر عن وجهة نظر المؤمن “الداخلية”.حيث أن أصل كلمة “teo-logia” إغريقي، وهي في مدلولها العربي تعني “قولا/خطابا حول الله”، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّاهتمام علم اللاهوت على دراسة الاعتقادات والإشكاليات الفقهية والتشريعية، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الوشائج الرابطة بين العبد وخالقه، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، وتنظيم الأحكام المتعلقة بالشرعيات، بغية تقديم نظام خُلقي دنيوي، في وصال مع ما يتصور المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. وتبعا لخاصيات هذا العلم المعياري، فهو يرنو إلى ترتيب علاقة مثلى بين الإنسان وبارئه. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي. وبشكل عام تتميّز انشغالات هذا العلم بتوطيد علاقة عمودية تصل الإنسان بربّه، يتطلع فيهاإلى تحقيق الانسجام الأمثل.
وبالتالي يتحرك علم اللاهوت في معالجة الشعائر الدينية، الصلاة مثلا، ضمن شروط الصحة وشروط الوجوب، فلو طالعنا كتابا متعلقا بالصلاة في الإسلام أو بالقدّاس المسيحي نلحظ تماثلا. في حين المقاربة العلمية سواء في شكلها السوسيولوجي أو الأنثروبولوجي فهي تحاول فهم أبعاد الممارسة الشعائرية وأثرها، مستهدِفة بلوغ مقصدها الأعلى دون أن يعنيها أمر صحتها أو شروط أدائها، ولكن بوصفها ممارسة اجتماعية أو رمزية داخل إطار زماني وحيز مكاني.
وعلم اللاهوت في تنظيمه لمجال الطقوس، هو محكوم أساسا بمنطق الجواز والبطلان، والطهر والنجاسة، والضلال والخلاص، والثواب والعقاب، والمشاركة والحرمان. لذلك تحوم مجمل إشكالياته حول ترسيخ سلوك المؤمن القويم، بغرض بلوغ خلاصه الأخروي وفلاحه الدنيوي، كما رسم معالمهما القديس أوغسطين في “مدينة الله”، المدينة السماوية، التي تقف على نقيض المدينة الأرضية .
وفي الفضاء الإسلامي، حتى وإن ارتقى نسق التطور التشريعي والفقهي والتنظيمي للوقائع الدينية، بظهور علوم شرعية مختلفة على صلة بمتنيْ القرآن والحديث، فإن هذا التطور غابت منه المتابعةالخارجية في التعاطي مع الدين. نرجع ذلك إلى عدم توفر الشروط التاريخية المعرفية لذلك، وبقاء تفسير الأمور في حدود ما هو غيبي وباطني.إذ بافتقاد الشروط التاريخية المعرفية يتعذّر على الإنسان المتديّن إعادة قراءة تجربته، ومراجعة نسق مفاهيمه، ما أبقى العربي والمسلم عامة في مستوى استهلاك الاعتقاد وقصوره عن بلوغ مراتب تبيّن أصول الاعتقاد، وهوما يتطلّب تجاوز حاجيات الغريزة إلى طرح تساؤلات الثقافة.
وضمن السياق المشار إليه،الذي توزّع فيه النظر للدين على ضربين: داخلي وخارجي، أو بوضوح لاهوتي وعلمي، برزت ملامح “علمية” تجمع بين مختلف المباحث المكوّنة لعلوم الأديان، على صلة بخاصيات المنهج التجريبي الوضعي في البحث، فضلا عن المنهج الاستقرائي واختبار النتائج، بما يضمن حياد الملاحظ. وقد عُدّت تلك العناصر كافية لاستبعاد اللاهوت وفلسفة الدين من عائلة المباحث العلمية في دراسة الأديان، مع أن أُولى التفرعات خرجت من حضنيْ اللاهوت والفلسفة، بعد أن جاء نزع الحبل السرّي الرابط عنيفا، كما يقول المؤرخجوفاني فيلورامو . ليتوالى توالد المباحث الجديدة مشكّلة مسارا على حدة، بدءامع تاريخ الأديان الذي ترافق بمقارنة الأديان ثم مع علم الاجتماع الديني فالأنثروبولوجيا الدينية، وعلم النفس الديني.
وتبعاً لهذا السياق التفاعليطورا والانشقاقي تارة في أوساط المنشغلين بتجربة الدين، حصل استبعاد فلسفة الدين من المقاربات العلمية، كونها تعالج الموضوع بشكل قيمي (أكسيولوجي) واستنباطي في بحثها عن الطبيعة “الحقيقية” للدين؛ وبالمثل حصل استبعادعلم اللاهوت بشكل حازم بوصفه تأملا عقليا للمؤمن في إيمانه الخاص، حيث يخضع نظره الخاص إلى موضوع ديني معياري. لكنالترحيبَ باللاهوتيين كأفراد والرفض للاهوت كرؤية ومنهجبقي حاضراً ضمن علوم الأديان، لعلّ الحالة الأوضح في هذا السياق اللاهوتي رودولف أوتّو. فانشغاله بـ”المقدّس” يأتي في مقدّمة اهتمامات العلوم الدينية به. وتُعدّ قراءته للدين في كتابه “المقدّس” إحدى الكواشف المهمة لتوضيح العالم الديني . لكن التحول الجاري من “فلسفة الدين” إلى “فلسفة الأديان”، وبالمثل من “لاهوت دين بعينه” إلى “لاهوت الأديان”، وما رافق ذلك من مراجعات للخروج من “المركزية المسيحية” ، بات مدعاة لمراجعة الأسس المكونة لعلوم الأديان، حيث أثيرت المسألة مع ثلّةمن الدارسين الغربيين أمثال بيار جيزل وأنسغار مونيكس وآلدو ناتاليه تيرّان . والواقع أن ثمة محاولات لعلْموة الخطاب اللاهوتي المسيحي من الداخل، على غرار محاولات “اللاهوت النقدي” و”المنهج التاريخي النقدي” ، وهو ما يفتقره السياق الإسلامي.

مواضيع ذات صلة