علم الأديان وعلم اللاهوت ..الاتصال والانفصال..الجزء2…عزالدين عناية

علم الأديان وعلم اللاهوت ..الاتصال والانفصال..الجزء2…عزالدين عناية

10 جانفي، 17:00

آفاق التكامل بين المنهجين
على سبيل الذكر،أثارت التطورات المبكّرةلعلوم الأديان،التاريخية والسوسيولوجية والنفسية،نفورا داخل الأوساط اللاهوتية الغربيةبوصفهامدعاة للريبة والتشكيك في الإرث الديني؛ لكن تحوّلا مهمّاحصل في العقود الأخيرة، حيث بدأت الأوساط اللاهوتية في احتضان المناهج الدارسة للظاهرة الدينية لا سيما منها السوسيولوجية والأنثروبولوجية. معتمِدة أحيانا تلك العلوم وموظّفةمقولاتها وتفسيراتها، لفهم عوامل تراجع الدين وزحف العلمنة، وذلك بقصد قلْب المعادلة وجعل الدين يستعيدالمبادرة. وبالتالي ثمة محاولات لهضم المداخل العلمية،مدفوعة بقصد توظيفها لصالح المعتقد الذاتي ودعمه. وإن أبدى اللاهوت المسيحي تخلّصا من الريبة والخشية من تلك المناهج مثمّنا دورها حينا وإسهامها في وعيه بذاته وبالعالم آخر، فالجلي في الجانب الإسلامي غيابتلك المصالحة، ولا تزال قطيعة عميقة بين العلوم الدينية والعلوم الشرعية. والمسألة عائدة بالأساسإلى مناهج التكوين الديني في جامعات العلوم الإسلامية.
ولو عدنا إلى أوضاع التوتر التي احتضنت علوم الأديان، لتبيّن لنا حدّة تأثير الصراعات على السياقات العلمية، لا سيما في فرنسا إبان الثورة، وتواصل آثارها حدّ الراهن، مع خفوت ذلك التوتر في أوساط أخرى ساهمتفي منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتية. وعلى العموم ثمة تقليدان في تناول الظاهرة الدينية من وجهة نظر علمية،أحدهما فرنسي”Sciences religieuses”،والآخر ألماني “Religionswissenschaft”.ترافقمنشأ الأول مع غلق كليات اللاهوت التابعة للدولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا .إذجاء تدريس “تاريخ الأديان” في فرنسا،في 24 فبراير 1880، تعبيرا عن قطيعة مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية. والتمشّي الذي استبدل دراسة اللاهوت بتاريخ الأديان هو التمشّيذاته الذي حظر تدريس “الكاتكيزم” (التلقين الديني) في المدارس الإعدادية .
فقد نشأ الفصل بين المقاربة اللاهوتية والمقاربة العلمية داخل أجواء الصراعاتالإيديولوجيةالمحمومةالتي عاشتها فرنسا العلمانية مع كنيسة روما، بدا فيها احتكار المواقع الأكاديمية وتوظيف السلطة المعرفية، حتى بلوغ تغيير المناهج التعليمية،أمرا حاسمالترجيح كفة الثورة. نتساءل هلما زال مبرّرٌ لذلكالفصل الذي تحوّل إلى تقليد أكاديمي؟إذ عادة ما يسود فصلٌ بين منهجَيْ مقاربة الظاهرة الدينية، العلمي واللاهوتي، والجلي أن تبنّي ذلك الفصل من قِبل من يزمعون دراسة الظاهرة الدينية غالبا ما جاء مستندا إلى حدود وتقسيمات واهية، والمسألة وفق نظري ناتجة عن أُحادية تكوين لدى دارسي “الظاهرة الدينية”، أن يكون الباحث خرّيج كلية علوم اجتماعية أو خريج كلية دينية بالمعنى اللاهوتي أو الشرعي، فيأتي التفكير في الظاهرة مشوبا بتغليب أحد المنهجين. والأمر في الوسط الأوروبي يعود إلى خلفيات سياسية متجذرة في الوسط الأكاديمي، تحوّلَ بمقتضاها الدين من معطى عمومي إلى تديّن خصوصي.
وصحيح أن علم الأديان يستند إلى سلسلة من العلوم الإنسانية والاجتماعية عدّد منها الفرنسي ميشال مسلان: تاريخ الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، والظواهرية، والإناسة الدينية، والبنيوية، والمقارنة، والرمزية، وأضاف إليها آخرون، مثلجوفاني فيلورامو، الألسنية والجغرافيا الدينية والقانون المقارن للأديان، مع ترك الباب مواربا لإمكان إلحاق علوم أخرى . ما أريد أن أخلص إليه في ضوء هذا التمشّي،أن حدود علم الأديان مثل حدود دولة إسرائيل غير مرسومة بشكل نهائي حدّ الراهن، فلا زالت عرضة للمدّ والجزر. فلماذا هذا الإصرار على استبعاد المساهمة اللاهوتية، ونحن نعيش انتفاء صراع المواقع بين ما هو كَنَسي وما هو مدني، لا سيما وأنالمعطى اللاهوتيقد شكّل الأرضية التي تولّدت منها مباحث تاريخ الأديان ومقارنة الأديان وغيرهما؟ إذ لا يعني تبنّي المقاربة العلمية للدين بالمفهوم الحديث، أن نلقي بسائر الإسهامات اللاهوتية، التي نسِمُهابالإيمانية، والتي عركها الإنسان المؤمن، على مدى قرون. والمهمّ أن نتفطّنإلى أن تلك المباحث المكوِّنة لعلم الأديان قد نشأت في فضاء غربي، ولا يعني أن الحضارات الأخرى قد عانت التوتر ذاته، أو أنها لم تولِّد مناهجها ورؤاها في فهم الإنسان المتدين. من هذا الباب تأتي حوافز الاستعانةبمباحث أخرى في فهم “الإنسان المتديّن”، حتى لا تبقى رؤانا مرتهنة للسياق الغربي، بما يزيد من ترسيخ سطوته.ما يجعلني أتساءل: هل استيراد المناهج والتقسيمات التي نشأت في الغرب كفيلبإفهامنا التجربة الدينية؟
إشكالية اللاّهوتي والعلمي في السياق العربي
من جانب آخر، لو تمعنّا الثقافة العربية نلحظ أنها لم تنتج أدواتها العلمية في فهم الظاهرة الدينية،إذ نجد المقاربة الإيمانية الداخلية (المقاربة الشرعية)، هي المهيمنة على النظر. ولا تزال المعالجة للدين والكائن المتديّن مطروحة على الوجه الأغلب ضمن رؤية إيمانية، مع إسهامات علمية خاطفة، ولا يمكن الحديث حتى الراهن الحالي عن خط منهجي تاريخي أو مقارني أو اجتماعي. فالمبادرات فردية ومحدودة ولا ترد ضمن تراكم علمي في دراسة الظواهر الدينية. وأبرز مظاهر هذا الوهن ما يطفو من خلط في المصطلحات، المتعلقة بدراسات الأديان والدراسات اللاهوتية في اللسان العربيلدى كثيرين، مثل عدم التفريق بين علم اللاهوت وعلم الأديان، وتاريخ الأديان ومقارنة الأديان وعلم اجتماع الأديان، ولعل خير مثال على هذه الضحالة المعرفية التي نعيشها في هذا المجال كتاب العراقي خزعل الماجدي المعنون بـ”علم الأديان” وهو أقرب إلى “كشكول للأديان” . فكما تعلمون أنا زيتوني المنبت، وأذكر التقليدالتعليمي المتّبع في الجامعة الزيتونية فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أن كلّ مقاربة لمسألة دينية، تشريعية كانت أو فقهية أو أصولية تجري من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للمسألة، لتُردف بآراء السلف وشروحات الخلف، ثم تُعالَج ضمن ما هو توقيفي وما هو اجتهادي، وأقدّر أن هذا الأسلوب لا يزال مراعىومحتذى إلى اليوم. فلو عدنا إلى مبحث العقيدة بالمنظور السائد تدريسه في الكليات الإسلامية نتبين الغياب اللافت للمقاربات العلمية في المسألة،حيث لم يطوِّر الدارس الانفصال المطلوب عما هو ذاتي، فضلا عن حالة التقمص الحاصلة مع المعتقد الذاتي. لكن رغم ما هو سائد، لا يعني أن تحقيق الانفصال متعذّر في حقل العلوم الشرعية، فبلوغ النضج المعرفي في العقل الشرعي الإسلامي هو رهين وعي لدى الدارس بالبنى الاجتماعية التي احتضنت تلك العلوم بشتى تنوعاتها الفقهية والحديثية والقرآنية والتفسيرية.
وصحيح أن الوعي بالظاهرة الدينية في الثقافة العربية هو وعي مشوب بمسحة إيمانية وردودية، مع ذلك لم يخل من خصوصية فهميّة،وهو يُصنَّف عموما ضمن الوعي الداخليبالدين، غير أن السؤال المطروح هو إلى أي مدى يمكن أن يُسهِم الوعي الداخلي في بناء وعي علمي بالواقعة الدينية؟ ومع أنّنا لا نجد في الفكر الديني العربي الحديث وفرة في التركيز على المادة الخام الأولى للدين، وعلى أشكال التدين، بما يتخطى ما هو إسلامي إلى ما هو كوني، مقارنة مع ما نجده في الفكر الغربي، لمنْ تناولوا الظاهرة الدينية بعمق ومنهجية علمية، سنحصر حديثنا بعمَليْنعربيين على صلة بموضوعنا. الأول وهو مؤلف المصري علي سامي النشار “نشأة الدين” (1948) الذي حاول فيه الإتيان على “الفكرتين الرئيسيتين المسيطرتين على النظريات الدينية وهما فكرة التطور وفكرة التوحيد أو الوحي الأول” حسب قوله، وإن كان علم الأديان تخطى سؤال المصدرية إلى رصد تجليات الفعل الدينيبكافة أشكاله؛ والثاني كتاب التونسي محسن العابد “مدخل في تاريخ الأديان” (1973) ، وهو كما أرادصاحبهله أن يكون مدخلا للعلوم الحديثة في تناول الظاهرة الدينية. ينبغي أن نقول إن اطلاع النشار والعابد ما كان سطحيا على المناهج الغربية في معالجة الظاهرة الدينية وعلى القراءات الحديثة، ولكن تأثيرهمافي جيليهما أو في الأجيال اللاحقة، للأسف بقي محدودا، مع أن الرجلين شغلا مهام جامعية نافذة. أذكر قولا لمحسن العابد متحدثا فيه عن العراقيل التي واجهت إنشاء تخصص دراسات الأديان في جامعة الزيتونة “ما أبنيه على مدى سنوات يُشطَب في لحظة، ثمة عقليةٌ منطوية على ذاتها ومكتفية بما لديها تأبى التطلع إلى ما وراء ذلك”.
ولو عدناإلى القرآن الكريملتبيّنِ إن حصل تناول للكائن المتديّن ولظاهرة التدين، بشكل يتخطىحدود المعتقدات والأديان إلى ملامسة “الدين الفطري” و”الدين الحنيفي”. نلحظ أن نصّ القرآنيطفح بالتناول “المتعالي” لمسألة الظاهرة الدينية بوصفها حجر الأساس الذي ينبني عليه الدين، أكان صادقا أم باطلا كما وصفه، ولميتحاشالخطاب القرآني أن يطلق مسمى دين على الأديان “الباطلة” ولم يدخر ذلك للدين الصواب، كما في قوله تعالى: “لكم دينكم ولي دين”. ففي التصور الإيماني ثمة منظومة متكاملة، يلتقي فيها الدين كحدث علوي والإنسان ككائن متديّن بالفطرة. وغالبا ما نسمع في الخطاب الإيمانيعن محاولات لاكتشاف السنن الإلهية المبثوثة في الكون، التي تشمل من جملة ما تشمل الاعتقاد، فما هذه السنن المتعلقة بالدين والكائن المتدين؟ وكيف طوّر الوعي الديني الإيماني فهمه لهذه السنن من خلال التجربة الدينية للبشر؟ أحيانا تبدو تلك الاستنتاجات منتقاة ومختطَفة من سياقاتها العلمية بقصد التوظيف لا غير. وسواء من داخل الرؤية القرآنية أو من خارجها، حريّ التساؤل عن كيفية وعي المؤمن الظاهرة الدينية والحدث الديني وإبراز مدى التغاير في ذلك مع وعي الراصد الاجتماعي أو التاريخي أو النفسيمن خارج حتى نحقق التفاعل المنشود بين المنهج العلمي والمنهج الإيماني.
نتساءل هلبوسعنا العثور على أشكال تديّن بدئي أرواحي وطوطمي وطبيعاني، مستوحاة من النص القرآني؟ والحال أنه أمام الخاصيات الجامعة التي تتراءىللمتابعللعالم الإسلامي،طُرحت في أوساط الأنثروبولوجيين المسألة بتفاوت، حيث نجد طلال أسد يتحدث عن “فكرة أنثروبولوجيا الإسلام”(1986) وجون باون عن “أنثروبولوجيا الإسلام الجديدة” (2012)،إلى حدّ الحديث عن “الإنثروبولوجيا الإسلامية” مع أكبر أحمد، إيمانا بأن هناك طابعا إسلاميا موحدا وجامعا . لا أودّ الانحدار إلى استخلاص الطروحات الإسلامية بشأن “الكائن المتدين” من نص القرآن على غرار طروحات “الاقتصاد الإسلامي” و”علم الاجتماع الإسلامي” و”علم النفس الإسلامي” وغيرها، لإيماني أنها مجرد تهويمات لرؤى خاصة فيالدين، أتت في سياق بحث الإحياء الإسلامي عن تشكيل خصوصية أمام قوة الضغط الغربي، ولكن مرادي هو جعل النص القرآني والمتن الحديثي في تواصل وتحاور مع مناهج العلوم الحديثة الدارسة للظاهرة الدينية.
كنت قد ذكرت آنفا حديثا مقتضبا عن رائدين في مجال الدراسات العلمية للأديان سامي النشار ومحسن العابد. والبارز أن تلك الحلقة التأسيسية لم تردف بحلقات تكميلية علمية تتابع تفاعل المناهج الحديثة في مقاربتها للظواهر الدينية.فعلماء الاجتماع الديني ينظرون إلى الدين بمثابة مؤسسةومجموع من التعاليم والقوانين والقيم والجماعات والمنظمات، تطورت بموجب حاجة اجتماعية. والمسار الذي يتبعه علماء الاجتماع يتمثل في تتبّع التواشج بين البنى الاجتماعية والسلوكات الدينية، بقصد تسليط الضوء، من جانب، على الاعتقادات الدينية، إن كانت -بشكل ما- مشروطة بالنظام الاجتماعي، ومن جانب آخر، لرصد الأوجه المحورية للدين في النظام الاجتماعي. هذا وقد ظهر علم الاجتماع الديني كمحاولة لفهم دور الدين في هندسة المجتمع، وحافظ على ذلك الاهتمام ضمن دراسة آثار سياقات التديّن . هذا الدور المحوري لعلم الاجتماع الديني يبدو غائبا في فهم الدين لدينا بعد أن تحول إلى مؤسسة فاعلة مع أننا في أمس الحاجة إلى ذلك.
الأمر ذاته يتعلق بالأنثروبولوجيا الدينية،في البدء تركز الاهتمام معإدوارد تايلور (1832-1917)وجيمس جورجفريزر (1854-1941) في دراسة الأديان البدائية،وتمحورت الانشغالاتحول أصول الدين وتطوراته،وهو ما جرى هجرانه لاحقا نحو أسئلة اجتماعية مع برونيسلاو مالينوفسكي (1884-1942) وإيفانز بريتشارد (1902-1973)، إبان فترة ما بين الحربين، تهدف إلى تتبّع الوظيفية السوسيولوجية الدوركهايمية، أي الوظائف التي يتخذها الدين في علاقته مع مختلف المؤسسات الدينية والممارسات الاجتماعية . أيضا تركز البحث فترة ما بعد الحرب على نقيض الاهتمام السالف،أي على تعميق البحث في طبيعة الدين ذاته من خلال تحليل الرمزية الدينية ودراسة السياقات الطقوسية.والجلي في خضمّ هذه التحولات أن مناهج قراءة الظاهرة الدينية في الزمن المعاصر ما عاد يشغلها سؤال المنشأ، أعني منشأ الشعور الديني أو منشأ الاعتقاد، وأضحى الهاجس يحومحول “الإنسان المتدين” وبالمثل “الإنسان غير المتدين” داخل تفاعلات التاريخ الراهن، إذ ثمة إعادة ترتيب للأولويات. وعودة الدين اليوم إلى المجال العمومي، وإصراره على اتخاذ دور في الحياة السياسية باتا من السماتالعامة في الأديان، يُذكيه ماتسرّب من شكوك في مقولة العلمنة المرتبطة بالحداثة، والاستعاضة عنها بمقولة التعددية، وأنالمعادلة التي تقول بتراجع الدين بقدر ما يتزايد التحديثباتت غير صائبة، كما لاحظ ذلك بيتر بيرجر، من خلال رصد أتباع الأديان النشيط في الأوساط الإسلامية والإنجيلية الأمريكية والإسرائيلية .
ضمن هذا المسار التطوري توجّب على علم الأديان الخروج من التوظيف حتى يكون علما.والبيّن في هذا المسار أن الأمر لا يعني أن اللاهوتيين في شتى الأديان، وعلى مدى انشغالهم بالدين، لم تراودهم فكرة بناء إطار علمي للدين أو تأسيس علم للأديان، وهو ما نسقطه من تصوراتناأو ندّعي أنه نتاج العصور الأخيرة، بعد أن تخلّصت الدراسة من بعدها الاعتقادي. أنا لا أجاري هذا التصور وهذا التحليل،فقد جرت محاولاتلصياغة علم الأديان،ولكن الدافع الأكبر في ذلككان بقصد جعلهفي خدمة الجدل. كان ماكس مولر، مؤسس تاريخ الأديان، قد تعرّض للمسألة منذ العام1856م تاريخ ظهور كتاب “علم الأساطير المقارن”، حين أبرز أن هدف علم الأديان، في البدء،كان إثبات تفوق المسيحية في مقابل الأديان الأخرى، لتقوم المسيحية بذلك الشكل مقام “اللاهوت الطبيعي”.
فقد طُرحت العلاقة بين المباحث الدينية واللاهوت منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع إنشاء تاريخ الأديان كمبحث مستقلّ. بدأتْ حينها مختلف المباحث الدينية تؤسس استقلاليتها عن اللاهوت . وفي الأوساط البروتستانتية يُعدّ أرنست ترولتش من أوائل الذين حثّوا الخطى نحو بناء لاهوت ينزع منزعا تاريخيا علميا،وذلك في مؤلفه: “العقائد الاجتماعية للكنيسة والجماعات المسيحية” ، متسائلا فيه عن العامل الذي جعل الرسالة الأصلية للمسيح تتفرّع إلى أشكال تنظيمية متباينة؛ وعنانتقال وحدة الكلمة الحية للمسيح إلى تعددية في الأشكال الدينية؛ وبالتالي تساءل ترولتشعمّا يمثّل جوهر المسيحية، حين نتفحّصهابأعين تاريخية وسوسيولوجية.
يتساءل بيار جيزال أستاذ اللاهوت المنهجي في جامعة لوزانفي كتاب: “اللاهوت أمام العلوم الدينية”: هل ثمة تكامل؟ هل ثمّة تراتبية؟ هل ثمّة تعارض بين اللاهوت والعلوم الدينية؟ مفترضا إمكانية التفاعل شريطة أن يحوّر اللاهوت من مهامه. وأن يجري ذلك التكامل في حلّ من تعالي طرف على آخر، مبرزا أن لكلّ من اللاهوت وعلوم الأديان تاريخ خاص وأحيانا لكل إبستيمولوجيته .
خاتمة
أختتم قولي في هذه الدراسة بالتذكير بمسألتين: الأولى تعود إلى السياق التونسي،في الفترة التي التحقت فيها بالجامعة الزيتونية طالبا، أواسط الثمانينات/أواسط التسعينياتمن القرن الماضي، كان يجول في الأوساط الطلابيةحديث عنمخطط “العلمانيين”لجعل الزيتونة قسما للدراسات الدينية تابعا لكلية 9 أفريل حينها، أو لكلية من كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل كلية الآداب بمنوبة. هذا التخوف أو هذا الهاجس لازم الزواتنة، وكأنّ منهجهم مهدد بالمتربّصين،ما ولّدَ انكماشا ونوعا من الفوبيا المعرفية الدائمة.وقد عُدّ الأستاذ عبد المجيد الشرفيحينها، رفقة طلابه من دارسي الإسلاميات وأقصد مجموعة “الإسلام واحدا ومتعددا” خطرا وليس رافدا من روافد دراسة الظاهرة الدينية، ترسّخ ذلك التباعد بين مناهج ومقاربات حديثة حاولت الإسهام فيمعالجة الإرث الديني الإسلامي في تونس وبين مناهج كلاسيكية بقيت داخل “كلية الشريعة وأصول الدين” في مونفلوري ثم “جامعة الزيتونة”في رحبة الغنم،تعدّ نفسها وصية على التراث الديني وعلى المشروعية الدينية وإن كانت وصاية وهمية وهشّة.
والمسألة الثانية منهجية: أتساءل هل أدوات الظاهرة الدينية التي تشكلت مع الرواد الأوائل في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفي مقارنة الأديان قادرة على فك إشكاليات “الإنسان المتدين” المعاصر الذي عرفه العالم تقريبا مع النصف الثاني من القرن العشرين؟نحن أمام تحدّ يتمثّل في سحب أدوات فهْم الوقائع الدينية التقليدية إلى عصرنا واختبار مدى قدراتها في الإحاطةبالكائن الديني المعاصر، وبالمثل لفهم الثوران الديني، والصراعات الدينية التي باتت تستعصي على رؤاناالتقليدية. وما التخبط الذي تعانيهالمقاربات الحديثة في تفسير الوقائع الدينية، والإسلاميةمنها تحديدا،لَهُو مؤشر بارز على قصور يعتري تلك الأدوات. من هذا الباب ينبغي ألا نكون غربيين أكثر من الغرب، بتبنّي أرثوذكسي لأدواته والتعويل عليها كل التعويل.

مواضيع ذات صلة