
على قارعة المجد: تأملات في انكسار أمة ونهوض أخرى”….أشرف المذيوب
حين تنظر في مرايا التاريخ، ترى أمةً كانت تُنير الأرض بالحرف، وتروي الصحارى بالعلم، وتفتح الأبواب بلسان الرحمة لا السيف. كانت هناك، على ضفاف دجلة وقرطبة، حيث كانت الكلمات تلمع كالنجوم، والعقول تسابق الفلك، والأرواح تعانق السماء بالمعرفة.لكن الزمن دار دورته، وتبدلت الأمكنة. اليوم نقف على قارعة المجد، نتأمل بمرارة خرائط القوة، ونسأل: كيف سقطنا؟ ولماذا تقدّم غيرنا؟ وهل لنا من قيامة بعد هذا السُبات الطويل؟الفصل الأول: حين كان العقل رسولًا والإيمان محرّكًافي العصر الذهبي للإسلام، لم يكن هناك صراع بين العلم والدين، بل كانا جناحين يحلّق بهما الفكر نحو فضاءات غير مسبوقة.ابن سينا لم يُكفَّر، بل قُرئت كتبه في الغرب قبل أن تُفهم في المشرق.ابن رشد لم يُقصَ، بل تُرجمت أفكاره لتُلهب عصر التنوير الأوروبي.
كانت المعرفة عبادة، والمختبر مسجدًا، والرحلة في طلب الحقيقة فريضة لا تقل شأنًا عن الصلاة.في ذلك الزمن، لم يكن المسلم يُسأل: “ما مذهبك؟” بل: “ما سؤالك؟”. وكان السؤال مفتاح التقدم، لا باب الشك.الفصل الثاني: من نور الحضارة إلى رماد الانقسام لكن المجد لا يدوم لمن ينام على وسادته.
بدأ الانحدار يوم اغتيل السؤال، واحتُجز العقل، ورفعت الرايات باسم الطائفة لا الأمة، وباسم الحاكم لا المبادئ.استُبدلت الرحمة بالقهر، والعدل بالولاء، والعلم بالفتوى الجاهزة.في لحظة ما، أُغلقت أبواب الاجتهاد، لا لأن العلم انتهى، بل لأن الخوف من الحرية بدأ.تُرك العقل في الظل، وأُضيئت المنابر بنصوص جامدة، تُفسَّر وفق هوى السلطان.ثم جاءت عصور الانقسام، فأصبحت الأمة أوطانًا متناحرة، كلٌّ يتحدث عن المجد، لكن لا أحد يصنعه.في هذا الفراغ، تسلّل الاستعمار، فنهب الأرض، وأخطر من ذلك: نهب الإرادة.الفصل الثالث: الغرب… حين اعتنق العقل وحرّر الإنسان في المقابل، كان الغرب يُعيد اكتشاف نفسه.من قلب ظلمات الكنيسة، خرجت صرخة العقل:”أنا أفكر، إذًا أنا موجود.”كانت تلك لحظة ميلاد جديدة: ميلاد الإنسان الحر.الغرب لم يكتفِ بطرح الأسئلة، بل حوّلها إلى مشاريع، والشك إلى بحث، والنتائج إلى ثورة:الصناعية، التكنولوجية، الرقمية، وما بعدها.لكن التقدم هناك لم يكن تقنيًا فقط، بل إنسانيًا أيضًا:صارت الدولة خادمةً للمواطن، لا العكس.صار القانون حاكمًا فوق الجميع، لا أداة في يد الأقوى.صارت الحريات مقدسة، والفكر نقديًا، والتعليم أداة خلاص.والأخطر: الغرب لم ينسَ أن يقرأ تراثنا.نهض على أكتاف كتبنا، لكننا كنا نائمين حين قرأونا.الفصل الرابع: بين جراح الواقع وأمل الانبعاثلسنا أقل ذكاءً، ولا أضعف إيمانًا، ولا أضيق أفقًا.لكننا أمة فقدت البوصلة. نعيش الحنين، ونُسرف في تمجيد الماضي، ونُقصي كل عقل يحاول طرح سؤال.
إن مشكلتنا فكرية قبل أن تكون سياسية، أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية.نحتاج إلى ثورة داخلية، ثورة قيم لا فوضى، ثورة فكر لا دمار.نحتاج أن نعيد ترتيب مفاهيمنا:الدين ليس جدارًا يمنع الضوء، بل نافذة تنفتح على الحق.العقل ليس عدوًا للإيمان، بل جسره الأجمل.السياسة ليست فن الكذب، بل مسؤولية أمام الله والتاريخ.
خاتمة: إلى متى نظل على الهامش؟الأمم لا تنهض بالدعاء وحده، ولا بالأناشيد، بل بالوعي والعمل والتضحيات.الغرب ليس قدوة مطلقة، لكنه قدّم نموذجًا نجح فيه العقل، وكُرّم فيه الإنسان.أما نحن، فلدينا ما لا يملكه الغرب: روح الحضارة، وعُمق الرسالة، وميراث النبوة.فهل نُعيد اكتشاف ذاتنا؟هل نتصالح مع عقلنا؟هل نُحيي ديننا كما أنزله الله: هدى ورحمة، لا سلاحًا للتنازع؟ربما نكون اليوم على قارعة المجد…لكن الطريق لم يُغلق بعد، وما زال فينا من يكتب، من يُفكّر، ومن يحلم.والأمم التي تحلم، لا تموت، بل تنتظر فجرًا جديدًا… يحمل في طيّاته وعدًا بالعودة.