
على هامش الوعي …الكلمة سلاحي،… والكتابة ملاذي….اشرف المذيوب
أسير بخطى واثقة على حافة الوعي، لا لأن الطريق واضح، بل لأن الكلمة تضيئه. هي سلاحي في عالمٍ تكسّرت فيه المعايير، وانهارت فيه القيم تحت وطأة الضجيج والتكرار. لا أدّعي امتلاك الحقيقة، ولا ألبس عباءة المفكر، لكنني أحمل يقظةً متعبة، وروحًا ترى فيما يُكتب ملاذًا أخيرًا من جنون اللحظة البشرية.
نعيش اليوم زمنًا يختلط فيه الزيف بالحقيقة كما يختلط الضباب بالماء، فلا نميّز بين النور والخداع، ولا بين الصدى والصوت. انكسر الخط الفاصل بين الواقع والتمثيل، وأصبحت المجتمعات – شرقيةً كانت أو غربية – تُساق بخوارزميات تكتب لها مصيرها، وتُلقّن فيها الإجابات قبل أن تجرؤ على طرح الأسئلة.
في هذا الركام الفكري، أكتب. لا لأبني مجدًا وهميًا، بل لأقاوم. أكتب لأن التنفّس وحده لا يكفي للبقاء إن لم يكن مسنودًا بالوعي. أكتب لأنني أرفض أن أكون مجرد رقم في نظام لا يرى الإنسان إلا بوصفه مستهلكًا أو تابعًا أو تهديدًا محتملاً.
ما يحزنني ليس الانحدار فحسب، بل القبول الهادئ به. لم يعد الانهيار كارثة؛ أصبح عادة. أصبح العالم يتآلف مع الفوضى، ويتصالح مع التشويه. بتنا نحتفل بالسطحية، ونرفع من شأن الجهل ما دام مغلفًا بالتقنية أو المظهر. المعرفة تُختزل في “ترند”، والضمير يُقايض على موائد المصالح.
نحن أمام كوكب تجرّه مصالح الأقوياء، تنهشه الحروب المعلنة والخفية، وتلوّثه الكراهية المغلّفة بالسياسة أو الدين أو الهوية. في الجنوب، الجوع والحروب؛ في الشمال، التخمة والقلق. في الشرق، أحلام معلّقة على حبال الماضي؛ في الغرب، وهم المستقبل المتسارع الذي يبتلع الإنسان قبل أن يفهم ذاته.
والأسوأ؟ أن الفكر بات يُقمع في كل مكان، لا فقط بالسلاح، بل بالسخرية، بالشك، وباللاّمبالاة. نخشى السؤال لأنه يربك النظام. نحارب المختلف لأنه يفضح هشاشتنا. نُؤمن بما يُرضي لا بما يُحرّر.
إنني أكتب لا لأنني أملك إجابة، بل لأنني أؤمن بأن طرح السؤال في حدّ ذاته فعل مقاومة. أكتب لأقول إن الخروج من الظلام لا يبدأ من المصباح، بل من الإرادة في أن نفتح أعيننا. أكتب لأن الكلمة – مهما كانت ضعيفة – تبقى أقوى من الصمت المطبق، ومن الأكاذيب التي تُروى علينا كل صباح بلباقة إعلامية مرعبة.
كل سطر أكتبه هو إعلان رفض، وكل فكرة أزرعها هي تحدٍ للغفلة الجماعية. الكلمة، حين تكون صادقة، لا تخضع. إنها الجسر الأخير نحو الإنسان، في زمنٍ تحوّل فيه كل شيء إلى منتج: الحب، الحقيقة، وحتى الموت.
فلتكن الكلمة سلاحك إن عزّ السلاح، وملاذك إن ضاق العالم، ودليلك إن ضلّ الطريق. علّنا نصل إلى لحظة نستحق فيها أن نُدعى بشرًا… لا آلات ناعمة، مبرمجة على النسيان.