
عيد الأضحى: عبادة، لمة، وذكرى تنبض بالحياة…اشرف المذيوب
في قلب كل مسلم ينبض عيد الأضحى بحكايات تتجاوز اللحظة، تسترجع فيها الذاكرة عطر الزمن الجميل، حيث كانت “لمة العيد” تجمع الأهل في حلقات من المحبة والتآخي، حول كبش الأضحية، تملؤها أصوات الضحك وعبق البخور، وأغاني الراديو التي تعزف نغمة فرح لا تُنسى. مشهدٌ يختصر عمق الروح الإسلامية، حيث لا تقتصر الأضحية على ذبح حيوان، بل هي رمز الطاعة، والتضحية، والرحمة.
أولًا: الأضحية بين الواجب والسنة
في ضوء الشريعة الإسلامية، الأضحية سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، وهي من أفضل الأعمال التي تُقرب العبد إلى ربه. قال تعالى:
{فصلِّ لربك وانحر} [الكوثر: 2]
وقال سبحانه:
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ} [الحج: 32]
وقد أمر النبي ﷺ بالذبح وأوصى به، وذبح بنفسه، ودعا المسلمين إلى تعظيم هذه الشعيرة. وليس شرطًا أن يذبح صاحب الأضحية بنفسه، بل يجوز التوكيل، مع حضور الذبح إن أمكن، لأن الذبح فعلٌ عبادي له آداب، منها النية والتسمية، وقول: “بسم الله، الله أكبر”.
ثانيًا: الحكمة من الأضحية
هي ذكرى قصة إبراهيم عليه السلام، الذي امتثل لأمر ربه بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، فتجلى بها الإيمان والطاعة والرضا بقضاء الله. بهذا الذبح، يعبّر المسلم عن استعداده للتضحية بما يملك طاعةً لله، وتمسكًا بالقيم التي ترسخ الإيمان.
الأضحية أيضًا تعبير عن الرحمة والكرم، إذ يُقسم اللحم بين الأقارب، والجيران، والفقراء، فتُعمّ البهجة والسرور، ويتحقق التكافل الاجتماعي.
ثالثًا: الواقع المعاصر وتحديات العيد
لكن مع غلاء الأسعار، وتغير نمط الحياة، بدأ بعض الناس يتراجعون عن الذبح أو يكتفون بأخذ اللحم من الآخرين، بدعوى أن أولادهم لا يأكلون اللحم أو يرون الذبح مشقة. هذا قد يوقعهم في التقصير في تعظيم شعائر الله، وهو أمر مأخوذ عليه شرعًا، لأن الأضحية شعيرة يجب الحفاظ عليها.
من جهة أخرى، يرى البعض أن عرض مشاهد الذبح على الأطفال أمر غير ملائم، لكن الصحيح هو أن نعلمهم المعنى والهدف من الأضحية بطريقة تراعي نفسيتهم، ولا نجعلها مسألة مخيفة أو عنيفة، لأن الذبح في الإسلام يتم برحمة، وليس عنفًا أو تعذيبًا، وهذا يعلم الأطفال قيم الرحمة والطاعة.
رابعًا: الذكرى واللمة العائلية
كانت “لمة العيد” في بيوتنا قلبًا نابضًا للعيد. يشتد الأهل حول الكبش، تشتم رائحة البخور، وتعلو نغمات أغاني العيد، وتدور أحاديث الأمل والتواصل. هذه اللحظات ليست مجرد ذكريات، بل روح تتجدد في كل عيد.
لكن مع تغير الزمن، وضغط الحياة، وضياع البساطة، انحسرت هذه اللحظات، وحلت مكانها العزلة، والسرعة، والتكنولوجيا. ومع ذلك، تبقى مسؤوليتنا أن نعيد تلك اللمة، نحييها بقلوبنا، نُعلم أولادنا أن العيد أكثر من لحم وذبح، هو حب، وهو صلة، وهو تقوى.
خامسًا: دعوة إلى العودة للأصل
لنجعل عيد الأضحى فرصة لتجديد الروح، ولتذكير أنفسنا وأبنائنا بأن العبادة مشاعر وأفعال، وأن التضحية ليست عنفًا بل رحمة، وأن العيد ليس مجرد مناسبة بل مدرسة نعيش فيها قيم التضحية، والكرم، والرحمة، والتواصل.
فلنشغل الراديو بأغاني العيد، ولنوقِد البخور، ولنحضر الأضحية برحابة صدر، ولنتشارك اللحم مع المحتاج، فذلك هو جوهر العيد. ليس المهم الكم، بل النية والإخلاص.
ختامًا
عيد الأضحى هو رسالة حبٍ متجددة، حكاية ترويها الأجيال عن إيمانٍ لا يموت، وروحٍ لا تنطفئ، وعلاقةٍ بين الإنسان وربه تنبض بالتضحية والعطاء.
لنحافظ على هذه الرسالة، ونحيي معانيها في قلوبنا وبيوتنا، لنبقى في رحاب الله، في فرحٍ تام، وطمأنينة لا تزول.
و ها نحن على أعتاب يومٍ ينسج خيوط الفرح من نور الإيمان، يومٌ تعانق فيه الأرواح أسمى معاني التضحية والتآلف، حيث يتجدد العهد مع الله ومع النفس، ويُشرق القلب بنداء الرحمة والمحبة.
كل عام وأنتم بألف خير، وعيدكم مبارك، يملؤه السكينة والرضا، ويُحيطكم برحمة الرحمن وبركة العيد.
نسأل الله أن يعيد هذا العيد عليكم وعلى أحبتكم وأنتم في أتم الصحة والسلامة، وأن يجعل كل أضحياتكم مقبولة، وأعمالكم في ميزان حسناتكم، وأن يُعيد الفرح إلى بيوتكم، ويغمرها النور والطمأنينة.
عيدكم عيد إيمان، عيد تواصل، وعيد محبة لا تنتهي.