غابرييل غارسيا ماركيز..”اثنتا عشرة قصّة قصيرة مهاجرة”

غابرييل غارسيا ماركيز..”اثنتا عشرة قصّة قصيرة مهاجرة”

25 جويلية، 18:00

غابرييل غارسيا ماركيز
<<اثنتا عشرة قصّة قصيرة مهاجرة>>
الموت: بين قلق ما قبل القصّ وسخريّة اللّعبة القصصيّة
الحديثُ في هذا الصّدد يفترضُ أنْ يكون عن شيء موجود في الدّاخل القصصي وخارجه، وعن دوره في خلق الأقصوصة. فلا يمكن أنْ نتكلّم على عناصر القصّة بزمكانيّتها وشخصياتها وأحداثها، ومقوّمات بنائها، وكلّ ما تثيره مِن جدل، دون أنْ نعود إلىشيء يكاد يكون الدافع المُنتج للملفوظ، هذا إن لم يَكن الدافع حقَّا.
الغريبُ أنَّ قصص ماركيز في هذا الكتاب خُلِقَت من رحم الموت، وهذا ما سنُبيّنُه في هذا المقال. والاثنتا عشرة قصة الّتي يضمّها هذا الكتاب كُتبت على امتداد ثمانية عشر عاما، بمعنى أنّها استغرقت زمنا طويلا ومرّت بعدّة مراحل قبل أنْ تنجوَ من قبضة القمامة لتُصبحَ على ذمّة القارئ.
ذكر ماركيز في مقدمة هذا الكتاب أنّ” ولادة هذا الكتاب تجربة إبداعية غريبة تستحق الشرح”.ولم يكن هذا الشرح سوىفضح لهواجس مرتهنةبالموت، وفي الوقت نفسه مثلت فكرة الموت نقطة بداية للكتابة.
الموت وقلق ما قبل القصّ
ينطلقُ ماركيز في شرحه هذه التجربة القصصيّة ممَّا أسماه” الحلم النموذجي” فقد قال في المقدّمة: “حلمت أنني أحضر مأتمي بالذات، وأنني أقف على قدمي […] وعندئذ أدركت أنّ الموت يعني عدم اللقاء مع الأصدقاء إلى الأبد”.
ولاشكَّ في أنَّ ماركيز لا يُخفي قلقه من الموت، هذا الذي يُخاتله حتّى في أحلامه، فبعد أن جعله سعيدا باجتماعه مع أصدقاء من أمريكا اللاتينيّة لم يرهم منذ زمن طويل، يمنعه بقسوة من الانصراف معهم. وبمجرّد انتهاء هذا الحلم الطافح بالموت يندفع ماركيز إلى الكتابة ” عن أشياء غريبة تحدث للأمريكيين اللاتينيين في أوروبا “.
كانت بداية الكتابة في غاية الشراهة، فقد كتب ماركيز قصّتيْن من غير أن يرتاح يوما واحدا، لكنّه اصطدم في منتصف القصّة الثالثة بما كبح حماسه وأضعف قدرته على إكمالها. فهذه القصّة تتحدّث عن جنازته، وقد انتهى أمرها إلى سلَّة المهملات بعد أن أرهقته ترجمة موته إلى نصّ يسع هذا القلق إذ يقول:” لم أستطع مطلقا أن أحوّل الجنازة إلى حفلة صاخبة كتلك التّي رأيتها في الحلم “.

من الواضح أنَّ فكرة الموت جعلت الكاتب يعيش اضطرابا وإرهاقا خاصّة في البدايات. ولا يعني تخلّيه عن كتابة قصّة جنازته هروبا من الموت، إنّما هو لجوء إلى الكتابة السلسة والتمتّع بلعبة القصّ.
نحن إذن، إزاء قلق كاتبٍ أنهكه هاجس الموت يُحاول أن يتشبّث براوٍ يُحوّل هذا القلق إلى لعبة قصصيّة يكون فيها الموت رهين رؤيته.
الموت وسخريّة اللّعبة القصصيّة
يتلاشى قلق الكاتب بمجرّد أن يُمارس الراوي لعبة القصّ. وقد كان الموتُ حاضرا في كلّ قصص هذا الكتاب، لكنّ حضوره المتكرر يختلف من قصّة إلى أخرى. فالموتُ يظهر في النّصوص بشكل علني وواضح، ويحملُ معه كلّ مرادفاته وأبناء حقله. وسنتتبّع الظاهر المُعلن في كلّ قصّة أي كلّ لفظ يتّصل بالجذر (م.و.ت) للكشف عن كنه هذا التّرديد الصّريح.
في القصّة الأولى<< رحلة موفقة سيّدي الرئيس>> نجدُ كثافة تكرار كلمة الموت” وهو يفكر في الموت”، ” وهو لا يفكر إلا في الموت”،” أصبحت قريبا من الموت”، ” لن يكون موتك على أي حال أمرا عاديا”،” بصمت كأنّه الموت”، ” هذا الرجل لن يموت بأي شيء”. والغريب أنّ الرئيس لم يمت في نهاية القصّة رغم ما مرّ به من أحداث قاتلة.
في القصّة الثانية <<القديسة>> نجدُ “الطفلة الميتة”،” تموت روما عادة في سبات آب”، “مات البابا”، “صوت يمكن أن يكون آتيا من الموت”، لقد مات خمس باباوات”. ولا عجب أن تملأ ألوان الموت فضاء القصَّة إذ هي تتحدّث عن معجزة تتمثّل في بقاء جسد طفلة على حاله رغم مرور فترة من الزمن على موتها.
ومن القصّة الثالثة <<طائرة الحسناء النَّائمة>>نذكر “يتأملن الطائرات الميتة”، “القرصان اللذان تناولتهما للموت وليس للنوم”،” كانت تبدو كأنها ميت مهجور في أرض المعركة”. وكلّ ما في الأمر أنّ حسناء أمضت رحلتها نائمة على متن الطائرة، وربّما كان نومها ضربا من ضروب الموت.
وجاء في القصّة الرابعة وهي <<بائعة الأحلام>> ” مات رب تلك الأسرة”. وفي القصّة الخامسة <<جئت لأتكلّم في الهاتف>>نجد ” لقد عانيت الموت”، ” القط الذي كان يوشك أن يموت جوعا”. ومن القصّة السادسة<<رعب آب>> نذكر “موته المرعب”.
وفي القصّة السابعة <<ماريا دوس براسيريس>> نجد “وهي تكاد تموت من الضحك”، “قد انكشف لها في الحلم أنها ستموت”،” ورأت في كل مكان علامات الموت المؤكدة”،” يبدو كأن الجميع يموتون معي”،” لحظة الوت”، “نذير الموت”. ونذكر من القصّة الثامنة <<سبعة عشر إنكليزيا مسموما>> “وهو الشيء الوحيد الذي وجده ليتمسك به لحظة موته”، ” ماتوا جميعهم. لفد تسمموا بحساء محار العشاء”. وفي القصّة التاسعة <<ريح الشمال>> نجد” ميتته المشؤومة”، “لأنه متأكد من أنه سيموت هناك”، “محاولا بذلك الهرب من موت محتم”. ومن القصة العاشرة <<صيف السيدة فوربس السعيد>>نذكر “وجدنا فيه السمراء الميتة معلقة على الباب”، “نحن المساكين إذا هي لم تمت هذه الليلة”، ” يتحدثون في أي أمر لا علاقة له بالموت”
وأمّا في القصّة الحادية عشرة<<الضوء كالماء>>، وهي أقصر القصص، فلم تُذكر كلمة الموت. ولن نتعسّف في التأويل بالرغم من وجود عبارات تحيل عليه.
وفي القصّة الثانية عشرة وهي الأخيرة<<أثر دمك على الثلج>> نجد ” للبيت الذي ماتت فيه ستة أجيال”، ” ولكن المرء يموت من العطش”، ” هذا يفضل الموت”، ” واقعية الموت”، ” لقد ماتت نينا داكونتي”.
ونستشفُّ من خلال ما عرضنا أنّ القاصّ يصنع الموت، ويبثّه في الأمكنة والأزمنة، ويعقد علاقة بينه وبين الشخصيات. وفي الحقيقة قدنصطدم بإشكال مهمّ، وهو هل نحن إزاء قاصّ واحد أم قاصّين؟
ومهما يكن أو مهما تكن الإشكاليات، فإنَّ لعبة القصّ مُورِست بسخرية مفضوحة، فقد حوّل الراوي قبح الموت إلى جمالية من خلال كثافة ترديده، وجعله خيط التماسك بين القصص. ولا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الموت باعتباره لفظا لم يكن حاضرا في قصَّة <<الضوء كالماء>> ومن الطرافة أنّ هذه القصّة لم يبق فيها شيء واحد حيا سوى الأسماك، إذ جاء فيها ” وكانت تلك الأسماك هي الوحيدة التي تطفو حية وسعيدة”.
وتكرار الموت ههنا، خال من دلالة التأكيد والتهويل بالرغم من أنّه في كثير من الأحيان يشكّل رعبا قاهرا للشخصيات، فالموت صار عادة تُمارس داخل النّص بمتعة. ولا شيء يواجه به الراوي استبدادَ الموت سوى أن يحوّله إلى أجزاء كي يُضعفه، فيجعله في الصمت، وفي الحيوان، وفي الجماد، وفي الإنسان، وفي الضحك، وفي الأحلام، وفي الواقع، وفي كلّ شيء يراه الراوي صالحا لقبول بؤس الموت.
ما يُمكنُ أن نخلص إليه من أفكار، هو أنَّ الموت ههنا، دافعُ القصّ وموضوع القصّة، وليس أحدٌ يحوّل تسلّطه إلى مرونة سوى راوٍ عليم بطلاسم الموت.

مواضيع ذات صلة