قراءة في التحول لمواقف الاتحاد العام التونسي للشغل…محمد خلف الله

قراءة في التحول لمواقف الاتحاد العام التونسي للشغل…محمد خلف الله

16 نوفمبر، 20:45

لم يكن ما شهدناه منذ إضراب قطاع النقل الصيف الماضي حدثا عابرا، ولا مجرد فاصل نضالي بعد ركود طويل. فالاتحاد، الذي وجد نفسه لسنوات في منطقة رمادية بين التهميش الرسمي والغضب القاعدي، يبدو اليوم وكأنه يختار لحظة العودة إلى مربع الفعل والضغط والمواجهة. وهذا التحول لم يأت من فراغ، بل من سياق متداخل، سياسي ونقابي وقانوني، تكوّن شيئا فشيئا ليضع القيادة الحالية أمام خيار واحد ،إما الهجوم أو التلاشي.

منذ سنوات، والحكومة تمارس سياسة التجاهل تجاه الاتحاد. لا تفاوض، لا شراكة اجتماعية، ولا حتى الحد الأدنى من الاعتراف الرمزي. لكنها، في الآن نفسه، لم تلجأ إلى الخيار المقابل،اذ لم تفتح ملفات الفساد التي تلوّح بها منذ مدة، ولم تستعمل الترسانة القانونية التي راكمتها لمحاكمة القيادة مباشرة. وقد رصدت تقارير إعلامية محلية ودولية هذا التلويح المتكرر بملفات فساد تستهدف قيادات الاتحاد، وهو تلويح ظلّ في أغلبه ورقة ضغط سياسية أكثر منه مسارا قضائيا فعليا، رغم ظهور قضايا وإيقافات محدودة تتعلق بنقابيين من الصف الثاني والثالث. هذا الوضع خلق حالة شاذة سلطة لا تريد التفاوض ولا تمضي في المواجهة ، واتحاد مهدَّد من دون أن يُمسّ فعليا، ومقصى من دون أن يُحاصر حتى النهاية.

في هذه المنطقة الضبابية، بدا واضحا أن القيادة النقابية وصلت الى قناعة انه إذا لم تُفتح الحرب ضدهم، فسيكون عليهم أن يفتحوا هم معركة تثبت وجودهم وتعيد وزنهم. وهنا تحديدا بدأت سلسلة التحركات القطاعية: نقل، تعليم، بنوك ومؤسسات مالية  وصولا الى اضراب القطاع الخاص في صفاقس، كما ان قطاع السياحةحدد موعدا لاضراب دون ان ننسى طبعا تلويح  قيادات الاتحاد بالاضراب العام اكثر من مرة . لم تكن هذه الإضرابات مجرد رد فعل اجتماعي تقليدي، بل خطوة تكتيكية محسوبة لقياس مدى استعداد الحكومة للمواجهة، ولإظهار أنها في أضعف حالاتها منذ 2021، وأن تجاهل الاتحاد لم يعد بلا كلفة.

هذا التحرك جاء في لحظة حساسة فالقيادة الحالية تعيش نهاية دورة بلا انجاز بعد انقلابها على الفصل 20، فاقدة لثقة قواعدها وحاضنتها الشعبية ،ملاحقة بشبهات متعددة، و محاكمات تستهدف نقابيين ومع ذلك، اختارت الدخول في مواجهة بدل الصمت الذي إحتمت به على مدى سنوات . وسبب هذا التحول بسيط فإذا كان العقاب السياسي أو القضائي قادما في كل الأحوال، فالأجدى أن يأتي وهم في موقع الهجوم لا في موقع الحذر.

بل إن هذه المواجهة تمنح القيادة هامشا إضافياإذا قررت السلطة فجأة استعمال ملفات الفساد، فسيُعاد تأطير الأمر بذكاء باعتباره استهدافا لنقابيين يدافعون عن حقوق العمال، لا محاكمة لمسؤولين فاسدين. وهكذا يتحول الاتهام إلى وسام نضالي، وتتحول المحاكمة إلى دليل ضعف السلطة لا قوتها. إنها لعبة سياسية معروفة، قلب موقع الضحية وصناعة صورة البطل المضطهد في اللحظة المناسبة.

في المقابل، يدرك الاتحاد أن الحكومة تعيش أزمة خانقة، عزلة خارجية، وضع مالي متدهور، ضعف داخلي، وشارع يغلي. والأزمات بالنسبة للاتحاد ليست خطرا فقط، بل فرصة أيضا. فالإضرابات القطاعية هنا ليست بالضرورة خطوة لإسقاط الحكومة، بل لرفع كلفة تجاهل المنظمة، وتحسين شروط التفاوض عندما تضطر السلطة عاجلا أم آجلا إلى فتح القنوات من جديد.

إن ما يحدث اليوم ليس عودة مفاجئة للاتحاد، ولا انتفاضة نقابية ، بل هو إعادة تموقع في لحظة سياسية هشة. والقيادة التي فقدت شرعيتها الانتخابية تبحث عن شرعية نضالية تعوّض ما سقط منها خلال السنوات الماضية. لذلك كان الهجوم بالنسبة لها أفضل من الدفاع، ورفع منسوب الإضرابات أفضل من انتظار ضربة قد تأتي في أي لحظة.

باختصار، الاتحاد قرأ ضعف الحكومة، وقرأ أيضا صمتها تجاه ملفات الفساد كعلامة على أنها غير مستعدة لفتح مواجهة كبرى. فقرر أن يبادر هو، وأن يعود إلى الميدان بثقل أكبر، وأن يعيد تشكيل صورته أمام قواعده قبل  المؤتمر المقبل بذاكرة نضالية جديدة، قد تكون طوق النجاة الوحيد لقيادة أنهكتها الاتهامات والانقسامات.

هذا التحول ليس تكتيكا مرحليا فقط، بل بداية مرحلة جديدة في العلاقة بين الاتحاد والسلطة، علاقة ستُحدَّد ملامحها بميزان القوى الحقيقي في الشارع  وبقدرة كل طرف على استعمال ما لديه من أوراق قبل أن تنقلب الطاولة على الجميع.

محمد خلف الله

مواضيع ذات صلة