قراءة في الصالون السنوي للفنون في دورته السابعة و العشرين “تشابكا مجهريا” : بقلم سعيدة عروس
يبدو لي عنوان الصالون السنوي للفنون في دورته السابعة و العشرين الذي تضمن ستة و تسعين منجزا فنيا، مثيرا للحيرة و الجدل، إذ يجمع بين فصل الزهور الربيعي و زهرة ترحب بالخريف من خلال “جلنار”. فحسب استماعي للشاعر عبد الجبار العش، أرى أنه يجمع بين شبقية اللون و رغبة الفنان للتوق لمنتهى الحب المتملك المتمسك بجذور نار الأحمر و روحانية هدوء برودة البنفسجي اللامحدود المحلق في سلام الضوء الأبيض الحر. فبدا لي الشاعر كأنه يلمح للطاقة الكونية و توازنها من خلال الشاكرات السبعة و انفتاحها نحو نار الجنة و جنة النار في فردوسها الأعلى المتشبث بالأرض الأم و الأنثى… فما استطاع الفنان من منظوري فصل الروحاني عن الحسي و المادي بين اللون الأول و السابع في انكسار الضوء عند اصطدامه بشفافية الماء مع حضور عتمة رمادية الربيع. فبان لي العنوان ذكيا، كتوازن بصري في تركيبة اللوحة و اعتدال الفصول الأربعة في اجتماعها بين زهر الربيع و أصل خريفي انطلق بزهرة الرمان “جلنار”. فكأنه جسد الانسانية جمعا بين حيوانيتها و رونقها الجمالي، كزرقة شفافية الماء فينا بصمت و طبعت دما… فالحب فينا فطري و يترجم ممزوجا روحا و فكرا و جسدا. فجمعت استعارة زهرة الرمان الحرة، الزئبقية، المنفلتة، زمن الآن بالمستقبل إلى ما لانهاية أو اللازمان، كي لا تنحصر الحواس، بل يبقى عطر الزهر و رؤية النظر و لمس اللون و لطخته و سيلانه كطعم عصير فواكه و حركة الصورة في اللحظة و تغيرها بالذاكرة خالدة دون بقاء و لا محدودة في إطار أبيض ضوئي يفتح الرؤى إلى تأويلها… فبان لي العنوان مشبعا حبا متوازنا بين نوره و غموض عتمته ما جعلني أختار “تشابكا مجهريا” كعنوان ذاتي للصالون، إذ يتشابك المادي بالروحاني كاتساق الأنا بالاخر، كتلاحم المرئي باللامرئي، هكذا انقسم نصي إلى ثلاث محاور فرعية تطرح إشكال وصل اللاودود و ود اللاموصول. ما استفزني أتساءل عن ملامسة اللاملموس في ازدواجية المرئي اللامرئي و لامرئية المرئي في ضبابيته في الذاكرة. كل ذلك يزج بي في مأزقية تشابك الأزمنة في فضاء اللازمن.
- وصل اللاودود و ود اللاموصول
لاحظت في العديد من الأعمال الفنية سواء خزف أو رسم أو حفر أو فسيفساء، كأعمال الفنانين هدى الخراط و مكية الشرمي و سلوى العايدي و نسرين الغربي و منال علولو و هيفاء عبد الهادي و سمية الحمداني وجود الدائرة. فظهر هذا الشكل المتكرر بطرق فنية مختلفة، حيث تقاطع و تواصل اللاموصول في اختلاف الاختصاصات بين عالم تقوقع الذات و الانفتاح على الآخر في استلهام نفس الشكل. كأنما هذا التنوع يأخذنا إلى أحادية و توحد شكل الدائرة و الشكل الكروي اللامحدد بزوايا، أين تكون لانهائية الحركة، كثبات الأرض و دورانها لاستمرارية الحياة فيها بكل تبايناتها اللامتوقعة. من خلال تشابك الأفكار اللامرئية و المجهرية مرئيا في المنجزات الفنية الذاتية، يوحى لي أن في هذه البصمة الوجودية الذاتية، تتواشج الأفكار في عالم لامرئي حيث تلتقي الاختصاصات في حركية حب الحياة من عالم الروحانيات حيث اللانهايات كحركة الكواكب. إذ يمكننا أن نعرف بكون أن التشابك حسب المعجم هو اختلط و التبس و تداخل. فالتشابك ملموس مرئي كما إنه يتداخل مع اللاملموس و اللامرئي في الحين نفسه حسب تحليل مارلوبوتني : ” يمكن القول بأن الجسد يشعر بالجسد المحسوس و إنهما مثل القفا و الموقع أو مثل قطعتين لسيرورة دائرية متعددة الاتجاهات لحركة ثنائية الوجهة… إذا كان الجسد أحادي، سيدمج مع الملموس عامة و في نفس الحركة سيدمج مع ذاتيته الحسية” [1].
تحلق بنا نسرين الغربي إلى عالم فسيفسائي من خيال يجمع كروية الكواكب بحركات حلزونية. فتنعكس صورتي الزائلة الهاربة الشبحية مع عالمها الخيالي. فيكون عملها الفني جديدا و معاصرا دائما رغم ثباته السرمدي. إذ يتواصل مع الشكل الدائري و يختلف في الاختصاص مع مكية الشرمي التي تسافر بنا إلى عالم متشتت، يتمركز على خلية تتوسط الدائرة المنغلقة المنفتحة على الضوء، لتنير لنا هذا الانغلاق الدائري و تكسره و تحرره بالأبيض. إذ تتشتت أجزاء الخلايا المينيمالية اللونين الموزعين في تركيبة متشعبة تشبعا لتنوع عناصر الخلايا، لتخلق تعاقبا في تشتتها، فيكون فيها وصل اللاودود و ود اللاموصول في الاختصاص نفسه. تبدو التركيبة بصريا، منحصرة في دائرة دون انحصار فعلي، إذ تتزاوج مع شفافية الخلفية التي تسمح بعبور الضوء من بين أجزاء تلاشي المتجمد لشظايا الخلايا. فيبدو المتجمد لينا و متحركا دون حركة واقعية و سابحا و محلقا دون طفو محسوس، جامعا عتمة الخزف بالخلفية الشفافة. فرغم أن المنجز الفني يظهر متمركزا من ناحية التركيبة، التي عادة ما تكون مزعجة بصريا، إلا أن مينيمالية الألوان و تقنية التلاشي لتعدد شظايا الخلايا و شفافية الخلفية، جعلت العمل الفني يبدو مريحا بصريا. ما دفعني أجزم أن الفن هنا مغامرة في خلق توازن بصري يستفزك للكل و ليس للجزء فحسب و للجزء في علاقته بالكل. إذ جاورتها أعمال دائرية الشكل، لتتسلسل معها دون تسلسل فعلي. فكأنه وصال بالشكل و التقاء طفيف في ترابية اللون. فبان لقاء حقيقيا دون لقاء واقعي للمادة، فكل و مواده. إذ اعتمدت الفنانة هيفاء عبد الهادي تقنية التحنيط للخضار و الغلال. فاستشف الحي صلبا و ثابتا في منجزها تحت عنوان « Tourbillon de plaisir ». هكذا كانت المفارقة بين العنوان و التقنية و بين حركة الدوران و التحنيط، كتخليد الحياة و الموت. إذ أضفت الفنانة بعدا روحانيا دائريا و حياتيا حركيا في سرمدية التماسك. فتراءى لي أن كل جزء من عملها يتمركز على المحور و التشكيل الزهري التناظري في الدائرة نفسها، غير أن تقنية المونوكروم للترابي المسيطر و تعدد و تنوع أحجام الدوائر في المنجز الفني، أضفت توازنا بصريا، حيث تسبح العين في كل مساحات المنجز. فدمج كل أجزاء التركيبات المتناظرة يخلق اللاتناظر و الاختلاف في التشابه بين الأجزاء. فشكلت الفنانة فوضى من نظام توزيع الخضر و الغلال المؤبدة. فكان التكرار للشكل، تناغميا، حركيا، شاعريا، مختلفا من خلال التفاوت. إنه تواصل الجزء بالكل و الكل بالجزء في مفردات التركيبة المفصولة في لعبة الملء و الفراغ.
فكأنما هذه الدوائر للفنانين تخلق رقصة صوفية في ثبات تغيرات دوران الأرض و في السمو لروحانيات سماوية الأفق. بذلك يتداخل الحسي باللاحسي دون تفاعل واقعي، إنه تشابك مجهري الخيال و التأويل بين اللولبي و الدائري و الراقص المثبت و الثلاثي الأبعاد و الثنائي البارز الملموس و المسطح، مما يقودني لأطرح إشكالية ملامسة اللاملموس.
- ملامسة اللاملموس
تتمازج التقنيات في رسوم الفنانة منال علولو لتجز بنا في مأزقية بصرية تستفز حواسنا. إذ تتلاقح ألوان المواد من بستال و أكريليك و تلصيق لتضفي ذبذبة بصرية لمسية في تشابكات و تداخلات الخلايا المرسومة و الملصقة. كما يتكرر شكل الدائرة أيضا مرسوما في أعمالها ليبصم تحولا في تموجات رعشات الخلايا. فكأن هذا العمل الفني العلمي المرسوم، نسيج حركي لانهائي التخبط و الاختلاط و الموت و الولادة في ازدواجية الخط اللين و المساحة الملونة و التقاء المتغير و المتقلب و المتعدد بالخالد.
رغم تداخل الأفكار بين الخلايا المرسومة لمنال علولو و بين الخلايا الخزفية البارزة لمكية الشرمي، إلا أن كل منهما و بصمته الذاتية المتقوقعة المنفتحة المنفلتة الخارجة من الإطار، بتأطير لامحدود، إذ يفسح المجال للتخيل المتواصل بتجاوز الملموس و التوق لللاملموس ذاكرة و فكرا و خيالا، حيث الإبحار يكون لامرئيا في تصارعه و تصادمه مع المنجز الملموس البصري. هكذا تتجدد الخلايا في عوالم ذاتية تشاركية و تشابكية لامرئية.
نلاحظ أيضا وجود الدائرة في أعمال الفنانة سمية الحمداني، لكن، إن كان الخيط في لوحاتها يتواصل مع الخط باعتماد تقنيات مختلفة لتخلق شاعرية بصرية لمسية متناغمة و متذبذبة و متضافرة و متضاربة من نسيج عنكبوتي لوني حساس ثنائي الأبعاد، إلا أن الخيط مع الفنانة إيمان الطهاري يتحول إلى نسيج نحتي ثلاثي الأبعاد تتداخل فيه التخصصات ليكشف عن شبه جسد انثوي عجيب، غريب، لين، طيع، مدهش، في بصرية رجة السؤال عن التجسيد للجسد و جسد النسيج المنحوت. فلامست اللاملموس فكريا و مفاهيميا في إحياء النسيج بتواشجه النحتي. فبقي السؤال قابلا لإعادة طرحه في إشكالية ازدواجية الخيط بمنجز ثلاثي الأبعاد و بإشكالية المنسوج المنحوت لجسد يمزج الواقعي بالتجريدي ليتجاوز واقعه ساميا بالخيال و الفكر. إذ أضحى الغائب حاضرا دون حضور فعلي، كشبح لجسد أنثوي ملولب، مبروم، طري، ثابت، في تحولات انحناءاته و التواءاته. فظهر كاستعارة لجسد المرأة مستفزا للذاكرة. إنه خيال يستدعي تلاحم المخفي بسيرورة تداخل أنسجة تلوى الأنسجة لتطرح تساؤلا حول الزمان و الفضاء، أين يتحول المنجز الفني إلى فضاء تشكيلي زئبقي في تحديد زمنه. ما جعلني أتساءل حول تشابك الأزمنة في فضاء اللازمن.
- تشابك الأزمنة في فضاء اللازمن
تلتقي المنجزات الفنية دون التقاء حسي لوشمة ذاتية لكل فنان. فنلتمس الطيفي في تجريد تواصلي كحضور الشكل بكيفية مختلفة و متنوعة. إذ تترابط الأعمال متحررة فيما بينها، لتنسج فضاء تتعدد فيه الأزمنة و تتجاور و تتلاقح بصريا و ذهنيا، لتبرز لنا في ليونة الصلابة الفسيفيائية الحجرية الهندسية تمازج الأشكال للفنانة هناء كريشان و تخليد لحظات خزفية متراقصة للخلايا الصلبة في منجز الفنانة مكية الشرمي. و أخرى تظهر كخيوط سلسة و كدوامات ثابتة في دائرة منفتحة الحركة لدى الفنانة هدى الخراط تحت عنوان “عبق الكون”. إنه توادد المقطوع لتعدد التخصصات، فتتزاوج فيه الأزمنة اللامترابطة فعليا، لترتقي بنا إلى مزج الأزمنة و اختلاطها في نفس الفضاء التشكيلي، أين تكون ولادة هجانة بصرية و لمسية و حركية و سمعية من الفيديو عن فن الأرض للفنان التشكيلي كمال الكشو و هدى الخراط بعنوان ” الزمن المعلق”، لتفسح لنا المجال لتذوق طعم جديد، فنشتم فيه ترابطا يستفز حواسنا لمفارقاته الزمانية في الصالون، من رسم على قماش و فن معاصر للفيديو و نحت و حفر و خزف، ما يستدعي « L’anachronisme » أو ما يدعى باختلاط اللامجتمع من الأزمنة حيث يستوطن اللازمن. في هذا المنوال يقول لوفيناس : “الزمن علاقة، فهو قطيعة و علاقة في الحين نفسه”[1]
تتوحد الأزمنة المفترقة سواء في العمل المفرد متواصلة بصريا و سمعيا كفن الفيديو من خلال تقنية المونتاج للقطات زمن متنوعة التأطير للمنجز الفني الأرضي البحري، أو في اجتماع ما لا يجتمع بصريا في تعدد التخصصات. يؤكد ذلك RIEBER, Audrey : “اللوحة الفنية هي بالأساس نتاج لاجتماع الأزمنة. فهي تخلط كل الأزمنة: زمننا و زمن ابتكارها و زمن البينين ماضيا و مستقبلا حيث يتحرك بكيفية حسية مادية و ذهنية فكرية” [2]
بدا لي الصالون غنيا و ثريا، إذ يطرح إشكال الزمن و اللازمن في التشبث بجذور الاختصاص والتوق نحو التجديد و التجدد أين تتكتل تعدد التخصصات في المنجز الواحد كالعمل الفني “امرأة مسترخية” الذي برز تمنحتا للمنسوج. ما تراءى لي انزياح الفنانة إيمان الطهاري للمعاصرة من خلال ائتلافها المغاير حيث تتحرر مغامرة و ثابتة في حبها لنسيجها العجائبي.
تأخذنا الفنانة فاطمة دمق بهبة نسمة عبق الأزهار الليلية إلى منجزها الفني « Les fleurs du bien » الفريد في مزجه بين أثر الحفر و بصمة رسم اللون، حيث تخلط الأزمنة في زمان لوحة العرض المفصولة بخمسة منجزات موصولة بصريا في فضاء ينعش تجانسهم من خلال فراغ يهدئ العين. إذ تعج التراكيب تدفقا لونيا في امتزاجها بالفويرقات الضوئية المؤبدة، لظلمة حالكة بسطوع الأبيض من بين أجزاء العمل التشكيلي.
خاتمة
هكذا يمكنني أن أقول أن الصالون عبارة عن اكتشاف لصحوة ربيعية قزحية الانحصار، منفلته الانحباس، مزدوجة القراءة. إنها جلنار، آنية الربيع للزهر و مستقبلية الهروب كزهرة تودع الصيف لاستقبال الخريف. فنتوقع اللامتوقع لثمرة كروية، روحانية الشكل، غنية الانتاج في خفاء حباتها، حيث تكون الحياة قطيعة و ألفة في الاختلاف و تشتتا في التواصل، أين يتقبل اللامتقبل و لا يتقبل المتقبل كحركة لانهائية للدائرة الكونية ، ففيها يكون الفن فكرة و مفهوما لامفهوما قابلا للتأويل في تنافر و تناقض اتجاهاته.
[1] PAYOT, Daniel, Citation par LEVINAS, de son livre ‘’Le temps et l’autre’’, tirée du livre ‘’Anachronies de l’œuvre d’art’’, Edition Galilée, Paris, 1991, p85
LEVINAS : « Le temps est relation, il est à la fois interruption et relation ».
[2] RIEBER, Audrey, ’’ Art, histoire et signification: Un essai d’épistémologie d’histoire de l’art’’, Edition, L’Harmattan, Paris 2012, p 18
« L’œuvre d’art, en effet, est essentiellement anachronique. Elle mélange tous les temps : notre temps, le temps de sa production et le temps qui passe entre les deux et qui agit de façon matérielle et mentale ».
[1] MERLEAU-PONTY, Maurice, Le visible et l’invisible, Edition Gallimard, Paris 1964, p 179 et 180
« Il vaudrait mieux dire que le corps senti et le corps sentant sont comme l’envers et l’endroit, ou encore, comme deux segments d’un seul parcours circulaire, qui, par en haut, va de gauche à droite, et, par en bas de droite à gauche, mais qui n’est qu’un seul mouvement dans ses deux phases… Si le corps est un seul corps dans ses deux phases, il s’incorpore le sensible entier, et du même mouvement s’incorpore lui-même à un « sensible soi » »