
للحقيقة والتاريخ.. تأسيس قرطاج : بين زيف الأساطير وحقيقة التاريخ…مصطفى عطيّة
3 ماي، 21:15
- مازالت وقائع تأسيس قرطاج تثير التساؤلات، بالرغم من مرور 2838 سنة على ذاك الحدث الفاصل في تاريخ البشرية ومنطقة البحر الأبيض المتوسط بصفة أخص، وآخرها يتعلق بما أوردته جامعة هارفارد الأمريكية ونشرتها مجلة( Nature) الأكاديمية المختصة، بعد بحوث جينية وأنتروبولوجية مختلفة إمتدت طيلة سنوات عديدة ومفادها ان قرطاج أسسها التونسيون الأصليون ولا صحة لما رواه المؤرخون من أن الفنيقيين الذين جاؤوا من “صور” هم الذين أسسوها وٱستوطنوها، وفي ٱنتظار مزيد البحث في هذه المسألة الهامة جدا، والذي قد يفضي إلى نسف كل القناعات التأريخية المتداولة على مر العصور، وإعادة كتابة تاريخ قرطاج بأكثر دقة من قبل علماء التاريخ والآثار من أجانب وأيضا من تونسيين أمثال الدكتور إمحمد حسين فنطر Mhamed Fantar والحبيب بن يونس Habib Ben Younes ونبيل قلالة Nabil Kallala وأحمد الفرجاوي وفتحي البجاوي وغيرهم، لا بد من الإشارة إلى تعدد الأساطير حول تأسيس قرطاج وتنوع الإستنتاجات التاريخية حول حيثياته، لتبقى الأسطورة التي اوردها فيرجيل Virgile، بعد ما يقرب من ثمانية قرون من تاريخ التأسيس، هي الاكثر تداولا، وقد إدعى فيها ان أميرة من صور، إسمها عليسة ديدون، حطت على سواحل بلادنا، هاربة من أخيها الملك بيغماليون الذي إتهمته بقتل زوجها أكرباس، وأقامت قرطاج على قطعة أرض لا تتجاوز جلد ثور، إشترتها من السكان المحليين قبل ان تتمكن من توسيعها شبرا شبرا مستعملة “حيلة المقص والأشرطة الطويلة والعريضة المتباعدة” !!!
- وتؤكد الاسطورة الثانية، الاقل تداولا، والتي روج لها المؤرخ الروماني يوستينوس، بعد حوالي قرن من رواج أسطورة فيرجيل، أغلب ما جاء في هذه الأخيرة، ولم يختلف معه إلا في أسباب إنتحار عليسة، إذ يؤكد فيرجيل ان عليسة عاشت قصة حب عنيفة مع أمير طروادي يدعى إينياس، وهو هارب من طروادة التي تم تدميرها تدميرا كاملا، ولم تكن قرطاج وجهته الأصلية، ولكن الرياح هي التي حملته إليها، إذ كان ينوي الذهاب إلى الضفة الشمالية للمتوسط تلبية لإرادة الآلهة التي نذرته لتأسيس روما، وفعلا، بعد مدة قصيرة من الإقامة لدى عليسة ومعاشرتها، واصل طريقه، تاركا وراءه حبيبته العاشقة الملتاعة، التي لم تطق صبرا على فراقه فٱنتحرت بأن رمت نفسها في النار، في حين يروي يوستينوس ان أميرا لوبيا يدعى يرباص هام عشقا بعليسة وٱقترح عليها الزواج منه، ولما رفضت طلبه، هددها بإعلان الحرب على مستوطنتها الصغيرة وتدميرها، فقررت ان ترمي بنفسها في النار لحماية مستوطنتها وسكانها من التدمير.
- إن قراءة متأنية للأسطورتين تقودنا، حتما، إلى التشكيك في ما اوردتاه من وقائع متضاربة وغير منطقية أحيانا، فرواية المؤرخ الروماني يوستينوس هي الأقرب للمنطق من التي اوردها فيرجيل، والتي تضمنت خطأ تاريخيا لا يغتفر، إذ ان طروادة دمرت وٱنتهى وجودها قبل ثلاثة قرون من تأسيس قرطاج، فكيف يجوز منطقيا، الحديث عن وجود امير طروادي هارب من مدينة دمرت وٱندثرت منذ هذه المدة الطويلة جدا، لتحط به الرياح عند عليسة التي تسقط في غرامه قبل ان يهجرها تلبية لنذر الآلهة؟ إنها الأساطير عندما تغرق في الخيال الخارق وتتجاوز حدود المنطق لكن التاريخ له منطقه ودقته وموضوعيته، فبالرغم من طغيان الجانب الأسطوري على الروايتين فإن الحقيقة مازالت قيد البحث ولا شك ان نتائج بحوث جامعة هارفارد ستفتح آفاقا جديدة لإعادة كتابة تاريخ تأسيس قرطاج كتابة تأريخية علمية دقيقة بعيدا عن الخيال المجنح لرواة الأساطير