
للحقيقة والتاريخ رثاء مدينة سوسة….مصطفى عطية
3 جويلية، 21:50
بكائية الجوهرة التي اطفؤوا بريقها تحت غطاء ” التمييز الإيجابي” المخادع !
كلما عدت إلى مدينة سوسة، باحثا عن قلبي المزهر هناك، وململما جراحي، ما إلتأم منها وما لم يلتئم، مستنشقا عبير طفولتي البريئة في ازقتها البيضاء القديمة، ذات الابواب المسمرة والشبابيك المحدبة والحيطان القصيرة، مستعرضا صولات مراهقتي الشقية، وجولات صبايا المعتق بمغامرات السعي إلى تأصيل كيان يانع، ملؤه التفاؤل والطموح والتحليق عاليا وبعيدا.- كلما عدت إلى هذه المدينة التي كانت تطوقني بسحرها الأخاذ، وتهدهدني بأمواج بحرها المسكون بعرائس “اوليس” والطيور التي أمنت رحلته العذبة، إلا وأصابني ما يشبه الإحباط، بل اشد مرارة من ألام الإحباط. لم أعثر على قلبي ولا طفولتي ولا حتى صباي، لم اجد تلك الروائح الزكية التي غذت ولعي بالجمال، ولا تلك المناظر الخلابة التي أينعت في تجاويف ذاتي. حتى البحر لم يعد هو ذاك الذي شكلنا فيه احلام طفولتنا، فقد اصبح غاضبا، مزمجرا، متوعدا، ترتاده وجوه كالحة كظلمات هذا الزمن، وطغت على الكورنيش مسحة غريبة من البشاعة، مشحونة بالخوف والإرتباك. مزابل “بشرية” تتحرك بقاذوراتها لترسم مشهدا مزريا، بنايات داهمها الخراب فحولها إلى اعشاش مسمومة، تنشر الرعب وتزرع الخيبات.
- نزل ومطاعم مغلقة تنتشر امامها جموع من المتسولين والمنحرفين والنشالين، يرصدونك بعيونهم المتوسلة تارة والحاقدة تارة أخرى. لم تعد سوسة جوهرة الساحل، لم تعد عروس المتوسط، لم تعد صورة تونس الناهضة، لقد أصبحت مزبلة مرعبة لسنوات التخريب والتدمير والحقد والحسد والبغضاء، والظلامية الزاحفة، والشعبوية الساحقة الماحقة. إنها نتائج جريمة ” التمييز الإيجابي” التي ريفت المدن وعمقت تريف الأرياف، ونشرت “المساواة” في البؤس والشقاء والجدب والتخريب الممنهج .