للحقيقة والتاريخ …محمد الطالبي في ذكرى ميلاده…مصطفى عطية

للحقيقة والتاريخ …محمد الطالبي في ذكرى ميلاده…مصطفى عطية

18 سبتمبر، 20:46
  • محمد الطالبي في ذكرى ميلاده، التي مرت في صمت رهيب، يدل على غربة العقل الكبير في مجتمعات الجهل والظلامية.
    مرت، يوم 16 سبتمبر مائة وأربع سنوات على ميلاد العلامة الراحل محمد الطالبي، الذي شغل الناس بعلمه وٱجتهاده طيلة أكثر من ثلاثة أرباع القرن. وكما إبن خلدون والعديد من علماء ومفكري ومبدعي هذه الربوع، تعرض الطالبي إلى كل أشكال التكريم والإذلال في ذات الآن، فقد عاش مكرما مبجلا، طيلة حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ثم غريبا ومغتربا في عهد زين العابدين بن علي، بعد تحريض من الجهلة والوشاة وسفهاء الأحداث، ليجد نفسه بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011، مستهدفا من الظلاميين وتجار الدين، فواجه خصومه بقوة وإقناع، كاشفا جهلهم وتخلفهم وتطرفهم وإرهابهم وضآلة أحجامهم.
  • كان من الطبيعي أن يختلفوا معه ويناصبوه العداء لأنه أشع بنور فكره معريا ظلاميتهم، لكن الذي آلمه هو عقوق بعض الذين كان يعتقد، لوقت طويل، أنهم في صفوف حركة التنوير، لكنهم رفضوا مقارباته وهاجموه، بالرغم من تأكيده المستمر على أن آراءه ومواقفه لا تلزم أحدا، مرددا انه لم يكن ولن يكون “ممن لم ينشأ يوما، في دماغه نخر السؤال القلقي ؟!،” ويضيف بكل تواضع العلماء أنه مهما فكر وقدر و” أرجع البصر كرتين” يمكن للتبصر أن ينقلب عليه “خاسئا وهو حسير” ! بكل هذه الروح العلمية العبقة بالسؤال والحرية وشغف البحث عن الحقيقة النسبية كان بجادل الخاصة من منتقديه.
    كنت كتبت الكثير عن محاولات بعض العامة والجهلة التطاول عليه وقد بلغ من العمر عتيا، واكدت أنه ليس من حق أي مختلف معه إهانته وتكفيره، أو حتى مقارعته إذا لم يكن في مستوى علمه ومعرفته، لأن الأمة التي تهين علماءها آيلة إلى السقوط والإندثار. والبلاد التي تفتح المجال فسيحا أمام الجهلة والأميين وأنصاف المتعلمين والمشعوذين، ليحلوا محل العلماء والمفكرين، تسقط في خنادق التدمير الذاتي الشامل.
    لقد أخبرتنا وقائع التاريخ، قديمه وحديثه، أن الأمم التي أهانت علماءها وكفرتهم وجرمتهم وطاردتهم، وتسببت لهم في شتى أنواع الأذى، سقطت في مستنقعات الظلامية ودمرت مقوماتها.
    لقد دأب العلامة محمد الطالبي، رحمه الله، على التفكير والإجتهاد بطريقة علمية جريئة وصادمة، شأنه في ذلك شأن كل كبار العلماء المجددين والمحدثين في أزمنتهم، كالغزالي وابن رشد وٱبن سينا وٱبن خلدون وعلي عبد الرازق والطاهر الحداد وطه حسين وغيرهم. وذاك هو دوره كعالم مستنير ومفكر مجتهد.
    عرفته عن قرب، وجالسته كثيرا، ورافقته في السفر عدة مرات، وخبرت معدنه الأصيل، وٱكتشفت علمه الغزير وسعة إيمانه ورفعة أخلاقه وعمق انتمائه لهذا الوطن .
    ما زلت أتذكر مشاركتنا في ندوة نظمت بالعاصمة السعودية الرياض، مباشرة بعد حرب الخليج، التي تلت غزو العراق للكويت في مطلع تسعينات القرن الماضي، حول موضوع “الإسلام والنظام العالمي الجديد”، وكيف رد على دعاة التشدد بالحجة الدامغة والبرهان الثابت، فأبهر سامعيه وألجم منتقديه. بعد إنتهاء الندوة، أقترح علينا مضيفونا، كعادتهم في مثل هذه المناسبات، التحول إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، سألته، وقد كان، رحمه الله، جالسا بجانبي في الحافلة التي تقلنا :” ما هي الفائدة من عمرة لم نسع إليها، وجاءتنا هدية من قوم لا نعلم نواياهم؟” فأجاب بٱبتسامته العريضة :”إن التوق إلى الله تغذيه نوايانا وليس نوايا الآخرين”.
    عند انتهاء الزيارة، كنت وإياه في المطار وقد دخلنا النفق المؤدي إلى الطائرة التي ستقلنا إلى ارض الوطن. كان المسافرون مصطفين في طابورين إثنين، واحد للرجال والآخر للنساء. قلت لسي محمد : “سأقف في طابور النساء شماتة في الذين يكرسون التفرقة بين الجنسين” فأجابني بحماس “سأقف معك في طابور النساء لأن الله عز وجل لم يدع إلى التفرقة “
    كانت تلك دوما، دعوته الصريحة إلى إعمال العقل بصفاء وروية، إستئناسا بما قاله إبن خلدون في العقل : “ميزان صحيح، أحكامه يقينية، لا كذب فيها”
    رحمك الله أستاذي الكبير وصديقي الراقي

مواضيع ذات صلة