
مصطفى عطية للحقيقة والتاريخ : هذا هو الراحل الكبير البشير بن سلامة عبقرية الفكر الاستشرافي
27 فيفري، 21:00
يقولون إنه عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها قال الكاتب الفرنسي، أندريه مالرو، رفيق درب الجنرال ديغول : “إن القرن الأول بعد العشرين سيشهد زخما دينيا طاغيا”! ! ! لكن تأكد لدينا بالحجة الموثقة أن التوقيت والتنسيب المتداولين لهذه القولة خاطئان إذ هي لم تصدر عن مالرو إلا في أواخر ستينيات القرن الماضي في حين سبقه الكاتب والأديب والوزير التونسي الأسبق المرحوم البشير بن سلامة بالتنصيص كتابة على هذه الفكرة الاستشرافية في مجلة الفكر مع مطلع النصف الثاني من الستينيات. وقد خصصت المجلة التي أسسها محمد مزالي وترأس تحريرها البشير بن سلامة في السنة السادسة والستين بعد تسع مائة وألف عددا خاصا بالإسلام والتحديات التي تواجهه، شارك في تأثيثه كبار الكتاب والمؤرخين ورجال الدين أمثال محمد الطالبي وهشام جعيط والحبيب بلخوجة والفاضل بن عاشور والعربي عبد الرزاق وغيرهم… قليلون هم الذين كانوا على استعداد لتبني هذه الفكرة في ذاك الزمن الموسوم بٱنتشار الشيوعية والفكر المادي وظهور تيارات علمانية تحررية في أغلب بلدان العالم.
بعد سنة فقط من صدور ذاك العدد الخاص من مجلة الفكر وتحديدا سنة 1967 (لاحظوا جدلية الصدف)، طلبت إدارة الرئيس الأمريكي ليندون جونسون من المفكر صامويل هنتينغتن إعداد دراسة تقييمية لحرب فياتنام، فٱشتغل على هذه المسألة مدة سنتين كاملتين ليخلص إلى نتيجة صادمة للأمريكيين وحلفائهم، مفادها أن الفياتناميين رفضوا كل الإغراءات الأمريكية، وأصروا على مقاومة الغزاة المدججين بالأسلحة الفتاكة، مستمدين قوة الإرادة وشدة العزيمة من تشبثهم بمعتقداتهم الدينية.
يؤكد الراحل هنتيغتن، في كتابه الشهير “صدمة الحضارة”، أنه بينما كان الغربيون يحتفلون بٱنهيار المعسكر الشيوعي، شهد الدين عودة قوية إلى الواجهة، فٱستعادت المسيحية، وخاصة الأرثودوكسية، زخمها في روسيا والعديد من بلدان أوروبا الوسطى، وظهر الإنجيليون في الولايات المتحدة وبلدان أمريكا اللاتينية ووجد الإسلام الراديكالي محاضن شعبية في أقطار عربية وإسلامية مختلفة!
★★★ وزير العطاء دون انتفاع
عادت بي الذاكرة إلى سنة 1983 عندما التحقت بديوان المرحوم وزير الشؤون الثقافية سي البشير بن سلامة وأنا في الثانية والعشرين من عمري لأكون أصغر مستشاريه وأصغر من كل مستشاري وزراء حكومة محمد مزالي في ذاك العهد. كان سي البشير يستغل سيارة هرمة اقتنتها الدولة منذ الستينيات ليتداول عليها عدة وزراء بدءا من الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي وفؤاد المبزع ومحمد اليعلاوي وكانت كثيرة العطب حتى أصبح عمال ورشة إصلاح السيارات بالوزارة يعرفونها قطعة قطعة، ومع ذلك لم يتجرأ سي البشير على طلب شراء سيارة جديدة. وكان يردد : “دولتنا فقيرة وعلينا ان نساعدها بالتقشف وتخفيف الأعباء عليها”.
هكذا كان الراحل العزيز يرفع مصلحة الدولة والشعب على مصالحه الخاصة. يعمل ولا ينتفع لأنه على اقتناع تام بأن المسؤولية تكليف وليست تشريفا، وعطاء وليست انتفاعا.