ما لم تفهمه السلطة الحاكمة اليوم…فتحي الجمّوسي
ضغط كبير يتسلط اليوم على السلطة الحاكمة و على قيس سعيد بالذات بسبب ما يسميه معارضوه: “تقويض الحريات والمس من الحياة والمؤسسات الديمقراطية وتحويل القضاء من سلطة الى وظيفة مكلفة بزج كل سياسي او حقوقي أو اعلامي معارض بالسجن وارباك كل من تسول له نفسه مجرد التفكير في منافسته على الرئاسية القادمة ووضعه تحت طائلة التتبعات و البطاقات القضائية.”
هذا الضغط لم يكن مقلقا لقيس سعيد في السابق لانه كان حكرا على احزاب و شخصيات سياسية و اعلامية منسوبة الى العشرية السوداء ولم تكن لها اية مصداقية شعبية.
لكن يوما بعد يوم يزداد هذا الضغط ويصبح اكثر جدية واكثر خطورة بعد ان انضم لخصوم قيس التقليدين اطرافا كانت تحسب على كونها مساندة له ولمسار 25 جويلية وبالأخص اتحاد الشغل والهيئة الوطنية للمحامين ممثلة في شخص العميد والتي اصدرت يوم أمس بيانا يعد بمثابة اعلان حرب على السلطة القائمة و ينذر بمواجهة قادمة بين الطرفين.
صحيح أن هذه الاطراف ساندت مسار 25 جويلية لكن ذلك كان من منطلق انهاء منظومة العشرية السوداء بكل من فيها بعد ان انتهكت سيادة البلاد وحرمتها و اقتصادها و مجتمعها و بعد ان اضعفت الدولة ودمرتها لمصالح حزبية و شخصية و حتى اجنبية.
كثيرون من ساندوا مسار 25 جويلية و انا من ضمنهم ليس من باب مساندة شخص قيس سعيد بل من منطلق انقاذ وطن باسره كادت منظومة العشرية السوداء ان تحمله نحو المجاعة أو الموت بالكورونا بسبب غياب التلاقيح او حنى الحرب الاهلية.
فمسك جميع السلط في يد واحدة كان مرحلة ضرورية لاعادة ترميم اجهزة الدولة ووحدتها بعد ان استباحت الاحزاب السابقة وحتى النقابات وحدتها و سلطتها وهيبتها وتقاسمتها في شكل غنيمة فيما بينها.
كان لا بد من يد حديدية تمسك كل شيء و قادرة على تغيير اي شيء أو بعبارة أخرى ما يسميه البعض ” الاستبداد النير ” لتحريك عجلة الاقتصاد و اصلاح التعليم و الثقافة و بعث المشاريع و الحد من الرشوة وكل مظاهر الفساد.
لكن للاسف الشديد بقدر ما تكلل مسار 25 جويلية بالنجاح الباهر في جانبه السياسي من حيث نجاحه في القضاء على الاحزاب الفاسدة و في الامساك بكل دواليب الدولة بقدر ما اتسم هذا المسار بالتعثر او حتى الاخفاق في الجانب الاقتصادي و الاجتماعي و التعليمي و الثقافي.
و هذا التعثر سببه الاول و الاخير كون السلطة الحاكمة اليوم تتعامل مع الاقتصاد و التعليم و الثقافة من منطلق ايديولوجي لا من منطلق علمي.
و الخطير في هذه الايديولوجيا المتبعة انها تقوم على اسس شعبوية تستهوي محدودي الفهم والثقافة و تستبعد وتشيطن كل النخبة حتى ولو لم تكن فاسدة كما ان مصيرها محكوم بالفشل تماما مثل مشروع بعث الشركات الاهلية و التي جربت بشكل او بآخر في تونس زمن احمد بن صالح عبر تجربة التعاضد و جربت كذلك بالخارج في الاتحاد السوفياتي زمن الشيوعية و ايضا ببعض دول امريكا اللاتينية و كل هته التجارب فشلت و ماتت بل تركت آثارا اقتصادية وخيمة تمادت على مدى سنوات.
ما لم تفهمه السلطة الحاكمة اليوم أن المعارضين السياسيين لها لم تكن لمعارضتهم لها اية قيمة او خطورة لو نجح حكمها في الرقي بالاقتصاد و بعث الاستثمار لاطعام الافواه الجائعة.
ما لم تفهمه السلطة الحاكمة اليوم ان الاقتصاد علم وليس ايديولوجيا ونظريات بالية ماخوذة من الكتب الصفراء وان هذا العلم يتطلب. منا الانطلاق في انجاز مشاريع عملاقة لاصلاح قطاع الفلاحة و الصناعة و السياحة و التعليم و الثقافة.
ما لم تفهمه السلطة القائمة اليوم هو كون دورها هو خلق الثروة وليس البحث عن ثروة منهوبة منذ عقود سابقة ويستحيل استرجاعها وايضا التوزيع العادل للثروة عبر خلقها لا التوزيع العادل للفقر و المزيريا عبر قتل الثروة او دفع اصحابها نحو الهروب بها الى دول اخرى.
ما لم تفهمه السلطة الحاكمة اليوم هو كون القضاء على الفساد المالي و الاقتصادي لا يتحقق عبر القاء رجال الاعمال في السجن ولا عبر السياسية العقابية لوحدها بحجة الفساد او الاحتكار بل بالاساس عبر سد منافذ الفساد وجعله شبه مستحيل وذلك بتغيير جذري للمنظومة القانونية و تغيير قانون الصفقات العمومية وحذف الرخص و تنقيح قانون التشجيع على الاستثمار و قانون الصرف و غيرها من القوانين البالية التي يمر منها الفساد.
ما لم تفهمه السلطة الحاكمة اليوم انها لو شرعت في كل هذه الاصلاحات لما تجرا احد على معارضتها.