
من المالوف إلى الرداءة : كيف سُلّمت ثقافة تمتد لآلاف السنين للمضاربة….بقلم: إلياس بلاّغة
لا يزال المالوف يرن أحيانًا في بعض صالونات الدواوين الخلفية، كأنّه نفس خافت. خيط أخير مشدود بين أجيال كانت تعرف كيف تستمع، وأخرى لا تفعل سوى الاستهلاك. في هذا البلد حيث كانت الحجر كلمة، والصوت التزامًا، والفن طريقةً للسكن الكريم في العالم، يبدو كل شيء اليوم مُسلّمًا لجرافات الفراغ. لقد توقفت العمارة عن أن تكون لغة؛ وأصبحت مجرد إشارات. الثقافة أصبحت ديكورًا أجوف للسياح المستعجلين. والنخبة كلمة تتزين لأجل برامج الحوار في الخليج.
في تونس، الأزمة الثقافية ليست حكاية عابرة، بل هي قلب انهيارنا النابض. والعمارة، التي يراد تقزيمها إلى خطط تراخيص أو زخارف تجميلية، هي أكثر أعراض هذه الأزمة وضوحًا.
كان هناك زمن كان فيه الصلة بالمكان، بالمادة، بالذاكرة، تُنتقل عبر الأفعال، الأصوات، الصمت. عمارة بلا شهادات أو مسابقات، لكنها ذات روح. حيث كانت البيت، الحي، المدينة تُبنى معاخذ الاعتبار للمناخ، الجسد، الزمن. حيث كانت المعارف تُهمس بها، تُراقب، تُنقش في الأيادي.
اليوم، تُركت هذه المعارف في الخلفية. الحرفيون يموتون بصمت، والمدن القديمة تُفرغ، تُخضع للخرسانة أو تُعقم من أجل تأجير Airbnb. ما كان الأجيال السابقة يصقله باحترام الأرض والسماء، قامت الإدارة بسحقه بضربات من قوانين عبثية ومناقصات منحازة. لم تعد الثقافة تُعاش، بل تُصنف. تُعرض خلف نوافذ مغبرة أو تُحتفى بها في مهرجانات ممولة، ثم تُنسى بمجرد توقف الدعم.
الانقطاع هنا. هيكلي. كامل. لم نعد ننقل، بل ندير.
وهذه الإدارة، هذه البيروقراطية الثقافية، أصبحت مدخل الرداءة. فليس النسيان هو ما يقتل، بل اللامبالاة المنظمة.
ثانيًا: المعماريون في وجه الخيانة: بين الاستسلام والمحاكاة الهزلية
كان يمكن للمعماريين أن يكونوا حراس المعنى. كان بإمكانهم الدفاع عن الذاكرة، مقاومة التوحيد، رفض أن يصبحوا مزخرفي رأس المال. لكنهم، في الغالب، خفضوا الحراسة. أو بالأحرى: خفضوا الرؤوس.
ربينا معمارينا الشباب كالدجاج في أقفاص الإنتاج: مُغذون على القوالب، الصورة، الخرسانة، غير قادرين على التقاط الواقع. اليوم، يغنون كصياح الديوك في برامج تلفزيون الوهابية، مملوءين بالغرور والجهل، بين قناتين تبيعان الهواء أو الجسد. فالثقافة التي تلقوها لم تكن تدريبًا، بل تكييفًا. استمناءهم الفكري على الشبكات، ووضعياتهم الخاوية، تزيد الكارثة طبقة من السخافة.
وأمامهم شعب مغلوط، مُخدع، منهك. شعب ما زال يظن أن من ينتخبهم هم من يحكمون، وأن التصويت يكفي لتغيير الجدران المتداعية.
نقابة المعماريين تعكس هذه الصورة: مشلولة، مرفوضة، لكنها متمسكة بكراسيها كعروش سخيفة. النقاش ميت، الرؤية غائبة، والطموح الثقافي محلول بمهووسة بالمسيرة المهنية.
ثالثًا: المضاربة الثقافية الشاملة: عندما تصبح العمارة سلعة
لم تعد المضاربة تخص الأراضي أو العقارات فقط. لقد استولت على الثقافة، الذاكرة، الرمزية. تحوّل المعنى إلى سطح، والتاريخ إلى رواية تسويقية، والمكان إلى منتج. ما لا يمكن تحويله إلى مال يُعتبر عديم الفائدة. وما لا يلمع يُحكم عليه بالتقادم.
في هذا النظام، لم تعد العمارة تؤدي وظيفة السكن أو التعبير؛ بل أصبحت إشارة. تصرخ عاليًا لتخفي الفراغ. تقلد، تكرر، تتزين. نتحدث عن “مدن ذكية” حيث تم تدوس ذكاء المكان. ونمدح الحداثة حيث دُمرت الاستمرارية.
تُروّج أكثر المشاريع سخافة على أنها “رؤى”: أبراج زجاجية في مناطق جافة، تقسيمات سكنية موحدة تُباع على نماذج ثلاثية الأبعاد، فضاءات عامة تُعاد تصميمها لأناس لا يعيشون فيها. في تونس، في سيدي بوسعيد، في جربة، نشهد نفس العملية: نزع ملكية رمزي باسم السياحة أو التنمية. مدينة تلتهمها مصالح خاصة، وعمارة تشارك في الطرد البطيء للسكان.
وفي الوقت نفسه، تبيع التلفزيونات أحلامًا زهيدة الثمن، تنتج مدارس العمارة نسخًا متماثلة، وتصمت المؤسسات. أحيانًا تنظم مؤتمرات.
رابعًا: المقاومة بالحجارة، وإحياء الروح
لكنها ليست قضاءً وقدرًا. أبداً قضاءً وقدرًا.
هناك طريق آخر. طريق العصيان الثقافي، الرفض المفرح، الاستعادة. طريق لا ينتظر إذنًا ليبني المعنى. طريق تقول: «لن نبني للسادة، بل سنبني للسكان». طريق تعيد اليد إلى التراب، والحكايات إلى الجدران، والمعرفة إلى الأجساد.
المقاومة اليوم هي إعادة ربط المكان بالذاكرة. هي إعادة العمارة إلى كلام. هي تعليم مختلف، بناء مختلف، نقل دون تمكين الرداءة. هي العودة إلى البطء، الدقة، العناية. هي الاحتفاء بالمالوف ليس كفلكلور، بل كلحن داخلي: ثقافة ترفض الاعتذار عن وجودها.
حان الوقت لاستعادة السيطرة على أدواتنا، حكاياتنا، أشكالنا. العمارة، مثل الثقافة، ليست مهنة محايدة. هي معركة. فعل حب. وفعل مقاومة.
الرفض كنقطة انطلاق
رفض الرداءة ليس موقفًا، بل ضرورة حياتية. رفض المضاربة، التوحيد، الجبن، هو رفض العيش كمستأجر في أرضه. هو إعادة للثقافة قدرتها على اليقظة، وللعمارة مهمتها السياسية.
بين المالوف وضجيج التلفزيون الخليجي، ما زالت هناك أصوات تستحق الاستماع، وأفعال تحتاج إلى تعلم من جديد، وأماكن تنتظر الإنقاذ.
وإن لم نعد نؤمن، فلا يبقى لنا سوى بناء هذا الشك. حجرًا بعد حجر.