مُطاردة….قصة قصيرة….سالم المتهني

مُطاردة….قصة قصيرة….سالم المتهني

1 جويلية، 12:00

اندفع هيثم يجري في ” باب الديوان” دافعا كل من يعترض سبيله من المارة مصطنعا الرفق و هو لا يكاد يقوى على التلفظ بعبارات الاعتذار المألوفة، يلتفت من حين لآخر وراءه ليطمئن أن من يلاحقه لم يظهر و أن المسافة بينهما ما زالت آمنة. كانت عبارات الاحتجاج و الألفاظ النابية تصل إلى أذنيه و كأنها آتية من بئر عميقة و كان كل ما يحدث كأنه كابوس مرعب ينتظر متى يصحو منه. المهم الآن أن لا تخور قواه.
مازال يركض،يجب أن يصل إلى آخر نهج الباي و ينزل الدرج الذي يصله مباشرة بباب “الجبلي” و هناك سيجد “تاكسي” يوصله إلى “مركز علولو” في طريق العين و بعد ذلك سينطلق كالسهم إلى بيت عزالدين و يسلمه الأقراص و يتسلم النقود ….والنقود تعرف أين تذهب.
بدا نهج الباي أطول و أحس هيثم بثقل رجليه و بدأ يحس بلهيب في صدره، لعن في سره التدخين و لعن من أقحمه في هذه التجارة القذرة،ألم يكن هناك من سبيل آخر لكسب المال؟
بعيدا عن هيثم في آخر نهج الباي كان عم النوري قد فرغ من صقل قصعة من الخشب و أخرج قفص “الكنالو” وعلقه على مسمار مدقوق في حائط واجهة المحل ثم أخرج سطلا و بدأ يرش الماء أمام الدكان.
من يتأمل عم النوري في حركته في كامل يومه يدخل في زمن آخر، زمن كانت فيه الساعة ستين دقيقة بالتمام و الكمال، فحركة عم النوري البطيئة تشعرك بأن الوقت يكفي لكل شيء، للنهوض باكرا و ركوب الدراجة و السير بهدوء في طريق طويل و فتح الدكان و صنع الأواني الخشبية و استقبال الزبائن القليلين و التفكه مع التجار و صانعي الأحذية و بائعي الملابس و الحلاق و رد التحايا على المارة و الاعتناء بالكنالو و تناول الغداء و شرب الشاي و رش الماء أمام الدكان و الذهاب إلى جامع “بو شويشة” لصلاة الظهر ثم العودة إلى الدكان و إكمال ما بقي من أعمال غير مستعجلة
و في آخر النهار قبل الغروب يمتطي عم النوري دراجته ويعود أدراجه إلى البيت محملا ببعض ما عن له أن يشتريه، يضعه في قفة لا يغيرها مهما قدمت،يعلقها في الجانب الأيسر من مقود الدراجة.
ما زال هيثم يجري و قد أصبح لهاثه مسموعا و كل من رآه أدرك أن مصيبة تلاحقه فتحمل بعض المارة دفعه دون تعليق.
قال أحدهم:الشرطة تلاحقه …
أحد التجار قال: ربي يبعد عنا أولاد الحرام و بنات الحرام.
رد آخر:هذا الفتى أعرفه…وجهه ليس غريبا..رأيته في مكان ما..أين؟ لا أعرف!
فكر هيثم في التخلص من الأقراص المخدرة و إعدام دليل إدانته…بدت له الفكرة ساذجة…إن لم يكن مذنبا فلماذا يهرب؟ وهل رجال الشرطة أغبياء حتى يسلموا ببراءته؟ ليس أمامه إلا الركض. قال في نفسه: سأركض و لن أتوقف…لتنقطع أنفاسي..ليتوقف نبض قلبي..لن يلحقوا بي مهما فعلوا..لن أسلمهم نفسي ليعبثوا بكرامتي و يقضوا على ما بقي من كياني المهدم…يا عز الدين ، يا كلب، سأعطيك بضاعتك و تعطيني النقود لأشتري طعاما و دواء لأمي…و أساهم في نفقات البيت…أكون نافعا لأبي ذي الدخل المحدود.
اقترب هيثم من آخر النهج و بدأ يلوح له الدرج، أحس بارتياح…التفت،لا أحد وراءه، ألقى نظرة على اليمين،إلى دكان عم النوري، لمح الكنالو المعلق ينط بين قصبتين، تباطأ قليلا و هو يقترب من الدرج، رأى رجال الشرطة في انتظاره، لمحوه، انطلقوا نحوه يصيحون ” توقف”،تراجع بسرعة، جروا وراءه، استأنف ركضه في الاتجاه المعاكس. في الأثناء كان عم النوري يعبر الطريق بخطى وئيدة للذهاب إلى الجامع،يصطدم به أعوان الشرطة في اندفاعهم، فيقع أرضا، يتجاوزه الأعوان مواصلين مطاردة هيثم…يهرع التجار إلى عم النوري يساعدونه على النهوض لكنه لا يقدر، فقد وعيه، نضحوا وجهه بالماء،وضعوا عطرا تحت أنفه بلا جدوى….
لم يتوقف هيثم عن الركض في ذلك اليوم ، أما الآن فهو واقف في صف طويل في مسجد الرحمة يتقبل عزاء أبيه عم النوري رحمه الله، و أمام المسجد سيارة الشرطة رابضة و الأعوان ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء موكب العزاء.

تأليف:سالم المتهني( تونس)

مواضيع ذات صلة