هل تعليمنا عالٍ وهل بحثنا علمي؟ …سامي النيفر
منذ عقود، دقّ ناقوس الخطر منبئا بفساد منظومة التعليم “العالي” في بلادنا… ما يحدث في الجامعة التونسية لا يسرّ أحدا، ولكن لا حياة لمن تنادي… ومن كان مغرورا ومتكبّرا لن يستطيع أن يرى عيوبه أبدا… يا سيادة الرئيس قيس سعيّد، عندما نتحدث عن إصلاح التعليم ونزع ما فيه من شوائب، يجب الكنس من الأعلى ويجب أن يكون الأعلى قدوة الباقين… عديد الإعلاميين والمثقّفين والمطّلعين على شؤون الجامعات تحدّثوا عن أن بعض الأساتذة الجامعيين -عظّم الله شأنهم- لا يتواضعون مع طلبتهم ويدرّسون بData Show وعرضهم عبارة عن محاضرة أو حوار من طرف واحد (monologue) فلا يتحرك المعلّم من منصّته ولا يسمح للطالب ببناء الدرس الذي يكون بطريقة عمودية جافة ونظريّة فقط وعديد الجامعيين يفتقدون للبيداغوجيا والتعامل السليم مع المتعلّمين… وحتى برامجهم ليست رسمية دائما فنفس المادة تختلف خلاصتها تماما بين أستاذ وآخر بل تتفاوت طريقة الاختبارات ومقاييس الإصلاح ولا يمكن الاطلاع على الأوراق… الحرية شملت أيضا وقت الدخول والخروج فليس هناك احترام للتوقيت بل ليس هناك جرس أصلا… وقد يبدأ الدرس متأخرا بربع ساعة وينتهي قبل ربع ساعة أو أكثر ولا متفقد ولا ولي ولا مدير ولا طلبة… فالأولياء يتبخّرون فجأة في الجامعة… وبينما يجلدون أساتذة الابتدائي والثانوي بسياطهم في كل حركاتهم وسكناتهم، يترفّعون في اللحظات الأخيرة الحاسمة في حياة فلذات أكبادهم… الخلاصات أحيانا لا ترى بالعين المجرّدة وفيها أخطاء لغوية بالفرنسية أو الانقليزية وذلك لا يقلق أحدا… وهل تهمّنا اللغة خاصة في المواد العلمية ؟ ولكن، منذ زمن وخاصة في نظام أمد الذي لم يتحدّث أحد عن إصلاحه، يقرّ كثير من الأساتذة الجامعيين لطلبتهم أنهم يعطونهم 30% من الدرس والباقي “يدبرون راسهم”… وهنا قليل من يفلح في فك طلاسم دروس مجهولة، فيلتجئ كثير من الطلبة خاصة في سنوات إعداد رسالة ختم الدروس وما بعدها إلى دروس خصوصية في مراكز خاصة يشرف عليها هؤلاء الأكاديميون… أما في الاختبارات، فهناك غش كبير من بعض الطلبة وبعض المراقبين لا يتعبون نفسهم كثيرا… بالإضافة إلى ما سبق، تعاني الجامعات من هجرة الكفاءات والأساتذة المميّزين إلى خارج حدود الوطن…
أما البحث العلمي فالكلام فيه يدمي القلوب، فالمكتبات محدودة المراجع.. ففي إحدى كليات الآداب التي حصدت عديد الجوائز نظريا فقط يكون اقتناء الكتب من وراء القضبان كالسجون ولمدة يومين فقط مع غلظة وفظاظة بعض العاملين هناك، وقد طردوا طالبا من مكتبة بدعوى أنها مخصصة للمرحلة الثالثة !!! أسوأ من هذا كله، الظروف التي يتمّ فيها إعداد رسالات ختم الدروس… فقد جرّبنا ورأينا وسمعنا وسألنا عديد المطابع المختصة في طباعة رسالات ختم الدروس فوقفنا على حقائق مرّة جدا : فالمؤطر يعطي للمتعلم بحثا لطالب من السنوات السابقة فينسخه حرفيا ويبدّل فقط الغلاف أو بعض الفقرات في أحسن الحالات ليصبح باسم الطالب الجديد وهكذا كل عام… بل إنهم ينسخون حرفيا ما يجدونه في غوغل أو موسوعات بناء على نصيحة المؤطر الذي يخبرهم أن المعلومات المطلوبة من الصفحة 60 إلى الصفحة 90 مثلا… لن نتحدث بعدها إلا عن بعض الاجتهادات ولن نتحدث عن أناقة اللغة وخلوّها من الأخطاء وحسن التقديم وحسن العرض الشفوي خاصة إن كانت المادة علمية… نحن بهذا نبني آلات ونصنع قوالب جامدة لا عقولا إنسانية مفكّرة… من المفترض على الطالب أن يبحث في 3 أو 4 مراجع ثم يختار الفقرات المناسبة ويعيد تلخيصها أو صياغتها أو حوصلة الآراء المختلفة.. هكذا نفعل في مقال صحفي أو حتى في بحث لتلميذ الابتدائي الذي نحثّه على الكتابة بخطّ يده لا الإتيان بمعلومات مطبوعة مباشرة من الانترنت أو يكتبها له وليّه دون أن يستفيد منها شيئا… والحقيقة الأخرى المؤلمة أن الجامعات ليست دائما منفتحة على محيطها الخارجي إلا بالمحاباة ولا تقبل البحوث إلا من “أبنائها” ولا تثمّن مجهودات من هم من خارجها وهو ما أسرّه لنا أحد العاملين في إحدى الكليات…
شيء أخير : حتى لو نجح الطالب والأستاذ الجامعي وكان الأول في تونس كلّها علينا أن نتساءل : ما هي شخصيته ؟ هل هو قوي العزيمة ؟ هل يتكيّف مع المتغيّرات ويتأقلم مع الوضعيات المختلفة ؟ هل هو متحاور جيد ؟ هل يحب وطنه ؟ هل سينفع جهته ؟ هل يحب الناس ويجيد التعامل معهم ؟ كيف هي أخلاقه ؟ كم لدينا من طالب أو أستاذ جامعي يذهب إلى “صنايعي” ليصلح له حاسوبا أو مصباحا كهربائيا رغم أنه يدرس الإعلامية والإلكترونيك ؟ وبعد كل هذا، ألديه مواهب وثقافة عامّة أم أنه يعرف فقط ما حفظه نظريا في اختصاصه ؟
جميل أن نكون أصحاب المراتب الأولى في الباكالوريا أو الجامعة وجميل أن تكون لنا إنجازات ولكن العاقل الفطن ينظر من مختلف الزوايا ويرى أيضا النقائص ولا يدّعي الكمال… بهذا فقط نصلح… في انتظار إصلاح التعليم العالي أولا يا سيادة الرئيس يا من تعرف كواليسه ودهاليزه المظلمة وأولى الخطوات أن تعود لنا وزارة التربية والتعليم العالي معا مثلما كنا في وسط التسعينيات.



