الباكالوريا والغشّ… تبديل العقليّة قبل الحلول الرّدعيّة
منذ عشرات السّنين، كثرت حالات الغشّ في الباكالوريا وفي كل المستويات من السّنة الأولى ابتدائي حتى الأطروحات الجامعيّة… في السّابق، كانت هذه الحالات استثناءً، أمّا اليوم فقد أصبحت مثل جائحة عامّة تصيب عدواها أغلب التلاميذ هذا دون احتساب محاولات الغشّ أو الحالات التي لم يقع التّفطّن لها… حينئذ نكاد نقول إن كل تلميذ -خاصة لو سنحت له الفرصة- سيغشّ إمّا بالأخذ أو بالإعطاء ناهيك عن حالات سوء السلوك وعدم الهدوء وعدم جلب الأدوات والرّغبة في الخروج وكثرة الاستفسارات التي يكون بعضها عن جهل أو تواكل وبعضها الآخر عن خبث رغبة من المتعلّمين في الحصول على معلومة من الأستاذ الذي أصبح واجبا عليه -خاصّة في الابتدائي- قراءة النّصّ وكل الأسئلة وإعادة ذلك مرّات عديدة كالببّغاء والويل له إن لم يفعل !… ناهيك عن كثرة الشهادات الطبية لتلاميذ يستوجبون معاملة خاصة ومساعدة تصل حدّ الكتابة لهم ولكنّهم يجتازون الاختبارات في قسم عادي فلا يعرف المعلّم مع من يشتغل ! وكان الواجب أن تكون هذه الحالات منفردة في قاعات أخرى وذلك قد يحصل أحيانا قليلة !
قد يرجع البعض ظاهرة الغشّ إلى تطوّر الوسائل التقنيّة وهذا ليس صحيحا تماما إذ حتى لو قطعنا الهواتف الجوّالة والانترنت فلديهم عديد الوسائل الأخرى… أذكر أنّ أستاذة الفرنسية في إحدى الكلّيّات كلّفت الطلبة سنة 2012 بإنجاز بحث في موضوع حرّ فاختار أحدهم “وسائل الغشّ المتنوّعة في عصرنا” وكان بحثه “ثريّا” والحق يقال ! حتى في الكلّيّة يغشّون مهما كان مستواهم بدءا بالكتابة فوق الطاولات قبل بدء الاختبار مرورا باختلاس نظرات قد لا يحاسب عليها القانون أو بفوسكة وصولا إلى تمرير ورقات أو تواطئ مع الأصدقاء ولن نتحدّث عن معايير الإصلاح شبه الغائبة أو ظروف إنجاز رسائل ختم الدروس وأقلّها سرقة الحقوق الفكرية في البحوث ناهيك عن بعض الطرق الملتوية في إسناد الأعداد ننزّه منها أغلب المربّين في كل المستويات ولكنّها موجودة وهناك خاصّة تساهل وتراخ قد يُفرض حتى على المربّي الأمين فما بالك إن ضعف ضميره بالإضافة إلى دروس خصوصية في كل السنوات حتى في الكلية والتي هدفها ليس مزيدا من الشرح أو تبسيط المحتويات بل تقريب الامتحان تقريبا وذلك مشروع إلى حدّ معيّن لأنّ الاختبارات تتشابه وليس هدفنا أن نأتي بامتحان من المرّيخ ولكن شرط ألا يصل هذا التقريب إلى مستويات مفضوحة ينتفي فيها الحدّ الأدنى من اجتهاد التلميذ… حتى نصل في الأخير إلى شهادات “مضروبة” أو ضعيفة وغير معترف بها عالميّا… وحتى نصل إلى نتيجة “من يدفع أكثر ينجح” وربّما يصبح أحدهم طبيبا “بالوفقة” كرخصة السياقة…
الغشّ مسؤوليّتنا جميعا… هو عقليّة سائدة في مجتمعاتنا من الكبير إلى الصّغير دون أن نعمّم… المحتكرون وبعض البائعين والوسطاء ورجال السياسة والدين والإعلام وأغلب النّاس تغشّ أو تخدع أو تكذب… علينا أن نعلّم التّلميذ أنّ الغشّاش هو سارق… يسرق العدد والمرتبة ويسرق مجهودات غيره وأنّه كاذب ومحرّف و”مترفك”… علينا أن نكون قدوة جيّدة له… يجب أن يكون محيطه نظيفا وأن يكون الجزاء من صنف العمل… كنتُ أتألّم لرؤية أحد الأساتذة الجامعيّين يتراخى في مراقبة الطّلبة عند الامتحانات فيصبح من لا يغشّ أحمق و”نيّة” بل إنّ أحد مدرّسي الكلّيّة قال لطالب اشتكى له من أمانته التي لم تنفعه : “اعمل كيفهم !”… عندما تصبح الأخلاق الحسنة سائدة سينصلح كل شيء بمفرده…
الأمانة والثّقة مسؤولية… أجدادنا كانوا يتعاملون “بالكِلمة” ودون عقود وأبواب البساتين مفتوحة ولا يسرقهم أحد… عندما ينصلح حالنا، لن يشوّش التلاميذ ولن يغشّوا حتى لو خرج الأستاذ من القسم وتركهم وحدهم. وهكذا كان حال أغلب المتعلّمين في زمان بوعنبة… فيا ليت زمن البراءة يعود يوما !
سامي النّيفر