
البيروقراطية والإجراءات القاتلة….الناصر البحري
يخيل للكثير أن ترميم سور آيل للسقوط مسألة بسيطة يفترض إنجازها بمجرد معاينة الخطر، وكان يفترض أن يكون الأمر كذلك، فعندما يتعلّق الأمر بمخاطر تهدد حياة مستعملي الفضاء، يفترض ان تسقط جميع الإجراءات والقيود، لكن هيهات، فالإدارة البيروقراطية المكبلة بالاجراءات وتعدد المتدخلين والتراخيص والتأشيرات على النفقات العمومية بداع ترشيد الإنفاق العمومي وقدسية المال العام ومحاصرة الفساد ومخاطر التلاعب بالمال العام قد تؤخر التدخل إلى ما بعد أوانه، إلى حين حدوث الكارثة.
في وضعية الحال، الكارثية، بكل المقاييس، مؤكد بعد معاينة الخطر الداهم، ان مدير المعهد، وثق الامر وراسل المندوبية طالبا التدخل، ومؤكد ان المراسلة بقيت اياما لتصل مكتب الضبط للمندوبية،، ثم اياما إضافية، في مكتب الضبط، لتصل إلى مكتب المندوب، الذي سيؤشر إطلعت ويحيلها إلى مصلحة البناءات والتجهيزات للتعهد. مصلحة البناءات والتجهيزات وفي إطار تجميع التدخلات، ستضيف لها مطالب مماثلة من مؤسسات أخرى راجعة بالنظر، ثم تعين فنيا من المندوبية للتنقل لمعاينة الأضرار وتقييمها ومدى جدوى التدخل، والذي سيقوم بإنجاز تقرير في الغرض يودعه لدى إدارته أو رئيسه المباشر بالمندوبية، وعلى أساس التقرير، تحدد جلسة، لتدارس التقرير والمصادقة على التدخلات المستوجبة والمستعجلة ثم تحدد الكلفة التقديرية لهذه التدخلات لتحديد الصيغة القانونية المناسبة لإنجاز الطلبية…
إذا لم تتوفر الإعتمادات أو ان كلفة التدخلات تتجاوز الإعتمادات المرصودة عندها سيكون المسؤول مجبرا على الدخول في إجراءات مطولة لتحويل إعتمادات أو لمراسلة الوزارة للحصول على إعتمادات إضافية والتي تخضع جميعها لجميع شروط التمطبط والتعطيل الإجرائي…
أما إذا كان محظوظا وتوفرت الإعتمادات، عندها يمر مباشرة لإعداد كراس الشروط وإعلان طلب العروض، وفي إطار الشفافية ينشر على تطبيقة تينابس tuneps ، بآحال مشاركة لا تقل عن الأسبوعين، والتي وفي بعض التدخلات قد لا تجد تفاعلا من المشاركين المحتملين، لعدة أسباب منها عدم إستعمال المقاولين الصغار بالتطبيقة وعدم غهتمام المقاولين الكبار بالتدخلات الصغيرة علاوة على تراجع الثقة في مصداقية الإدارة في الخلاص في احسن الآجال، لذلك وفي عديد الحالات يكون طلب عروض غير مثمر، بما يستوجب إعادة النشر وإستنساخ نفس الإجراءات….
أما لو صادف الحظ وحظي طلب العروض بمشاركات، فعندها تجتمع لجنة فتح العروض للتثبت من صحتها وتعطي آجالا لإستكمال الملفات المنقوصة في إطارة توسيع دائرة المنافسة، وبعدها تحيل الملفات إلى لجنة تقييم العروض لإختيار العرض الأفضل من بين العروض المستجيبة للشروط.. إذا كان الأمر في حدود الإستشارة نمر مباشرة لإعلام صاحب العرض الأفضل بقبول عرضه، وإن كانت صفقة فالامر يفترض عرض الملف على لجنة الصفقات المختصة، علما بأن مثل هذه الطلبيات قد تسقط في الماء إذا إتضح بعد فتح العروض ان العروض المالية المقدمة تتجاوز إلى حد كبير الإعتمادات المرصودة او الكلفة التقديرية للتدخلات وهو أمر شائع جدا في البناءات وصيانة البناءات….
لن ينتهي الامر باستكمال جميع هذه الإجراءات والمراحل، على فرضية أنها تمت دون اشكاليات، إذ يجب إحالة طلب التعهد بالنفقة إلى مراقب المصاريف العمومية، الذي يؤشر على جميع النفقات العمومية بالجهة في إطار مبدا التأشيرة المسبقة، عندها فقط سيكون متاحا إصدار إذن بالتزود لينطلق بعدها المقاول في العمل، علما بأن هذه المرحلة فيها مخاطر تتعلق بتراجع صاحب العرض الأفضل عن الإنجاز أو مطالبته بمراجعة الأثمان بحكم التأخير الكبير المسجل وإمكانية حصوله في الأثناء على مقاولات اهم….
اللي يوجع القلب ان هذه الترسانة من الإجراءات التي وضعت بهدف ترشيد الإنفاق العمومي للحصول على أفضل شروط الكلفة وجودة التدخلات، تحولت بحكم التأخير في آجال الإسناد والخلاص وتعقيدات الإستلام والشهادة بمطابقة التدخلات، إلى سبب موحب للترفيع في الكلفة لأن المزود يحتسب في العرض المقدم كلفة التأخير في إنطلاق الأشغال والتأخير في الخلاص بعد إستكمال التدخلات….
في المقابل ماذا لو إجتهد مدير المدرسة وبادر من منطلق المسؤولية ووعيا بالمخاطر بالاتفاق مباشرة مع مقاول حول إنجاز التدخل بشكل سريع وبمبلغ جزافي بالإتفاق المباشر لتحييد المخاطر على ان تتم تسوية التدخل لاحقا، كان سيتهم بالمحاباة والمحسوبية وانجاز نفقة عمومية على غير الصيغ القانونية وستلاحقه تهم الفساد واخطاء التصرف وقد يجد نفسه متهما ومسجونا، أما اليوم وقد حصلت الكارثة فسيتهم بالتقصير لعدم تقدير خطورة الوضعية وتعجيل التدخلات الإستثنائية….
هذا ليس تبريرا لما حصل، وليس تبييضا لمسؤولية المسؤول إن وجدت، وكل من ثبت تقصيره يتحمل مسؤولياته الكاملة، وكان بالإمكان التدخل رغم القوانين المكبلة على غرار الإستناد للخطر المحقق والتدخل المستعجل الذي يعفي من هذه الإجراءات، كان بالإمكان أيضا إحاطة السور المتهاو بحواجز لمنع المرور بجواره إلى حين إستكمال الإجراءات، كان أيضا بالإمكان القيام بالهدم إلى حين إستكمال الإجراءات، لكن حتى هذه الإجراءات الإستثنائية تخضع لنفس تعطيلات تعدد المتدخلين وتشتت القرار لإقرار الصبغة الإستثنائية للتدخلات…. هذه فكرة عن المعطلات التي تكبل الفاعل العمومي، وتعيق التسريع في التدخلات الضرورية، هذه فكرة عن المسؤول دون وسائل عمل وإمكانيات مناسبة وأحيانا بلا ميزانية أو موارد بشرية، دون صلاحيات لأخذ القرار أو بصلاحيات مقيدة تخضع لسلسلة من المصادقات والتأشيرات في سياق تعدد المتدخلين….
علما بأنه في جهة تعرضت لسلسلة من الهزات والرجات، كان يفترض ان يتحل المسؤولين الجهويين بالقدرة على التصور والاستباق وقراءة الأحداث ووضع اسوا الفرضيات، من خلال جرد شامل للبناءات التي تأثرت بهذه الهزات واقرار خطة عاجلة للتدخل، وهو حسب رأيي التقصير الاكبر في وضعية الحال،،، علما بانه بداية من اليوم ستنطلق حماة وطنية لتفقد الجدران والاسوار للتعجيل بترميمها، لأننا وللاسف، لا نستفيق ولا نعطي الاهمية لعديد المخاطر الجاثمة إلا بحصول الكارثة ….
مؤكد بعد هذه الحادثة الأليمة ستوجه المسؤولية لعديد المسؤولين لإستيعاب الصدمة والغضب، لكن سيتم التغاضي عن الاسباب الاعمق لهذه الكارثة، وهي البيروقراطية الإدارية المقيدة والمكبلة والمهدرة للوقت والاعتمادات والارواح البشرية، معطى عام يشمل المدارس والمعاهد والجامعات والمبيتات والمستشفيات، فكم من بناية مهددة بالسقوط تراوح مكانها منذ سنوات ونتذكر الحادثة غير البعيدة التي جدت بصفاقس وراح ضحيتها مواطن بريئ ذنبه أنه ترجل حذو سور آيل للسقوط، وكم من شبكة كهربائية تجاوزت عمرها الإفتراضي بسنوات وتعرض مستعملي الفضاء لمخاطر جدية، وكم من قاعة عمليات لا تستجيب لمواصفات الصحة ونتذكر صورة قاعة العمليات التي تقطر ماء، وكم من سيارة تتجول بقارورة غاز ومهددة بالإنفجار في أية لحظة، وكم من مصعد منتهي الصلوحية ونتذكر حادثة المستشفى وكم من وسيلة نقل عمومية تتجول دون إستيفاء جميع شروط السلامة….. منظومة إدارية غارقة في البيروقراطيّة قائمة على الهرمية، على المطابقة الإجرائية، وعلى تعدد المتدخلين، أفرغت المسؤولية من محتواها وصلاحياتها، وإختزلتها في إمتيازات الخطة والمسؤولية عند الخطا، المسؤولية الحقيقية، هي ان تعطي للمسؤول صلاحية اتخاذ القرار والامكانيات لتنفيذ وتجسيم القرارات مع إخضاعه للرقابة البعدية على أساس نجاعة التدخلات وليس المطابقة الإجرائية العقيمة…..
ماذا ننتظر لمراجعة هذه المنظومة، ماذا ننتظر لضبط مقاييس وشروط لصلوحية إستغلال الفضاءات العمومية من خلال إستيفاء الشروط الدنيا للسلامة دون الحديث على أسقف دنيا لجودة الخدمات…. معاقبة المقصرين مسألة بديهية وهو إجراء عقابي اكثر منه إجراء إصلاحي، لذلك الحلول المستدامة تستوجب معالجة أصل المشكل وأسبابه جذريا…..
مسألة اخيرة بديهية في السياسات والتدخلات العمومية، الدولة المواطنية تقوم على واجب دفع الضرائب من جميع الناسطين وفي مقابل ذلك تلزم الدولة بتامين الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل في أفضل الظروف لإستيعاب الطلب وتامين شروط الصحة والسلام بشكل متاح لجميع التونسيين وبنفس مواصفات الجودة في جميع ربوع البلاد بعيدا عن منطق التسول والتبرعات والإستجداء…. ملاحظة تنسحب على المستشفيات واقسام الإستعجالي، المعاهد والمدارس والجامعات والمبيتات، وسائل النقل العمومي، والحفر التي تكسو جميع الطرقات….