حديث الجمعة : بر الوالدين من أعظم شعائر الإسلام
إن بر الوالدين من أعظم شعائر الدين قضى به ربنا عز وجل، وثنى به، وعطفه على عبادته وتوحيده وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاسورة الإسراء 23. كما قرن شكره بشكرهما في قوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُسورة لقمان 14. وجعل أحب الأعمال إلى الله -بعد الصلاة لله عز وجل- بر الوالدين، عن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: “أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها) قال: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص لرجل في الغزو في الجهاد في سبيل الله إلا بعد أن يأذن له والداه، ولذلك لما جاءه الرجل يسأله قال: (أحيٌ والداك؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) وقال للآخر الذي سأله وقال له: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبويَّ يبكيان، فقال: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) وقال لآخر لما جاءها مهاجراً من اليمن: (هل لك أحد باليمن؟) قال: أبواي، قال: (أذنا لك) قال: لا، قال: (ارجع إليهما فاستأذنهما) فإذا كان الجهاد فرض عين خرج بغير إذنهما مع التلطف معهما، أما إذا كان الجهاد فرض كفاية فإنه يتعين برهما؛ لأن بر الوالدين فرض عين فلا يقدم على غيره، ولو اختلف الدين، فإنه لا بد من برهما، ولما جاءت أم أسماء راغبة في صلة ابنتها، واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها، قال: (نعم) ولكنه لا يطيعهما في معصية وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا سورة لقمان 15. إذاً لو كانا مشركين فإنه يعاملهما بالإحسان وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًاسورة العنكبوت 8. وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ولذلك قال سعد رضي الله عنه: -وفيه نزلت الآية- “كنت باراً بأمي فأسلمت، فقالت: لتدعن دينك، أو لا آكل، ولا أشرب شراباً حتى أموت، فتعيّر بي، ويقال: يا قاتل أمه، وبقيت يوماً، ويوماً، فقلت: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت”. ما هي صور بر الوالدين؟ماذا يفعل الإنسان المسلم لوالديه؟ ما هي صور بر الوالدين؟ بماذا يكون البر؟ البر أيها الأخوة: يكون بجميع أنواع الإحسان، والصلة، والمحبة، والكلام الليّن، وتجنب الكلام الغليظ، ورفع الصوت، ويناديهما بأحب الألفاظ، كيا أمي، ويا أبي، ويقول لهما ما ينفعهما، ويعلمهما دينهما، ويعاشرهما بالمعروف،البر أيها الأخوة: يكون بجميع أنواع الإحسان، والصلة، والمحبة، والكلام الليّن، وتجنب الكلام الغليظ، ورفع الصوت، ويناديهما بأحب الألفاظ، كيا أمي، ويا أبي، ويقول لهما ما ينفعهما، ويعلمهما دينهما، ويعاشرهما بالمعروف.ويقدمهما على نفسه، ولا يتقدم أمام أبيه، ولا يحاذيه إلا لضرورة، كنحو ظلام يتقدم بين يديه ليفديه بنفسه، وإذا دخل عليه لا يجلس إلا بإذنه، وإذا قعد لا يقوم إلا بإذنهما، ولا يستقبح منهما بولاً، ولا مرضاً، ويكتم كراهيته إن حصلت، ولا سب، ولا إيذاء، ولعن الله من لعن والديه، وسائر أنواع البر والصلة المالية وغيرها واجبة، حتى أن للأب أن يأخذ جميع ما فضل عن مال ولده الذي لا يحتاج إليه؛ لحديث: (أنت ومالك لأبيك) دون إلحاق ضرر بالولد، أو إبقائه في حاجة، أو اعتداء على نفقة واجبة على الولد، كنفقة زوجة الابن وأولاده، وهذا كلام معروف لدى كثير من الناس.ولكن أيها الإخوة نريد أن نتعرض لصور عملية وواقعية لما يكون أحياناً من المشكلات بين الآباء والأمهات من جهة وأولادهما من جهة أخرى، فمن المسائل مثلاً التعارض بين بر الأب والأم، بسبب غلبة الفسق في هذا الزمان، وكذلك الأهواء الشخصية الموجودة أصلاً في نفوس البشر، ربما يتعارض في كثير من الأحيان بر الأب مع بر الأم، وخصوصاً إذا كان بينهما عداوة، من طلاق ونحوه، فينبغي على الإنسان أن يقوم بحقهما معاً، هذا ما هو واجب على الابن، ولا شك أن للأم أكثر البر، وثلاثة أمثال ما للأب من البر، كما جاء في الحديث، ولو وجبت على الولد النفقة على أبويه ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما، كما يحدث لعدد من الموظفين ذوي الأكساب القليلة، والرواتب المتدنية، والعوائل الكبيرة، فيقدم الأم على الأب في أصح أقوال أهل العلم؛ لما جاء في الحديث، وإذا أمر كل واحد منهما الولد بأمر يتعارض مع أمر الآخر، نظر الولد في الأمرين: فإن كان أحد الأمرين طاعة، والآخر معصية، قدم أمر الذي أمره بطاعة، ولم ينفذ أمر الذي أمره بمعصية، فإذا تعارض برهما في غير معصية، كمن طلبت منه أمه أن يأتي إليها الآن في بلد، وطلب منه أبوه أن يأتي إليه الآن في بلد آخر، فإن أمكن الجمع بينهما، أو تأخير أحدهما برضاه، فهذا ما ينبغي عليه أن يفعله، وإلا فقد قال بعض أهل العلم بتقديم الأم؛ للحديث المتقدم، وكذلك فإن كثيراً من الناس يسأل عن استئذان الأبوين في السفر، وكل سفر فيه مغامرة، ومخاطرة، وتعرض للهلاك، فليس للولد أن يخرج بغير إذن والديه؛ لأنهما يتضرران بذلك، وكل سفر لا يشتد فيه الخطر يحل له أن يخرج إليه إذا لم يضيعهما، كما ذكر ذلك بعض العلماء، وقال بعضهم إن السفر إذا كان لا بد منه كتحصيل علم وتفقه لا يوجد في بلده فإنه يخرج مسافراً ولو بغير إذنهما، مع مراضاتهما، والسعي في إرضائهما، وسفر التجارة الذي يرجو به ما يحصل في الإقامة لا يخرج إلا بإذنهما، أما بالنسبة للنوافل وقطعها، فإنه إذا لم يخش غضبهما إذا نادياه وهو يصلي ويكمل الصلاة أكمل الصلاة، وإذا كان يخشى أن يغضب إذا أتم النافلة خصوصاً إذا كانا لا يرياه قطع النافلة وأجاب الوالدين، وأما بالنسبة لأمر بعض الآباء والأمهات للولد بتطليق زوجته، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان تحته امرأة يحبها، وكان أبوه يكرهها، فأمره بطلاقها، فأبى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بطاعة أبيه، لكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، ولا ينطبق في جميع الحالات، ولذلك سأل رجل الإمام أحمد رحمه الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي، قال: “لا تطلقها” قال: أليس عمر رضي الله عنه أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته، قال: “حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله تعالى عنه”، فإذا كانت زوجته صاحبة دين وخلق لم يلزمه مطلقاً أن يطلقها ولو أمره أبواه، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه المسألة: لا يحل له أن يطلقها بل عليه أن يبرها، أي يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها، ليس تطليقه لزوجته بر، ليس تطليق زوجته بر بأمه أبداً، وإذا أمراه بمعصية كقطع رحم، فقال له أبوه: لا تصل خالك أبداً، أو قالت له أمه: لا تكلم عمك أبدا، فإنه لا يطيعهما في هذه المعصية، ولكنه يكتم أمر الصلة حتى لا يكون في ذلك مزيد إغضاب لهما، فيصل خاله أو عمه سراً.